في الأوَل من أيار.. رياض الصالح الحسين يقرَر أنه سيلتقي مع صديقته على سطوح عمارة
فيصل خرتش
اقترب الأوَل من أيار، عيد الطبقة العاملة، وكنت قد تزوَجت قبل هذه المناسبة بقليل، وأصرَ الشبان الذين أرافقهم على أن يبلغوني تهنئتهم في بيتي، كنت قد اشتريت بيتاَ هو عبارة عن طابق أرضي يتألف من غرفتين وصالة، يدخل إليهما عبر المدخل، كنا قد جمعنا ثمنه أنا وأمي وأبي، وباعتبار أنني كنت أكبر أخوتي، فقد تقرَر شراء البيت لي، وعندما يكون الأخ الذي بعدي أكون قد دبرت نفسي، فأترك البيت له وأشتري بيتاَ جديداَ، من خلال ما نجمعه من أموال، وهكذا سكنت أنا وزوجتي في هذا العش الصغير، نقطف حلاوته بشهد الرضاب، كما يقول أحمد رامي بصوت أمَ كلثوم التي أحبَ أغانيها، بخاصة القديمة منها.
تحدَد الموعد، وتقرَر وذلك بأن أجلب إلى بيتي حوالي خمسة عشر نفراَ من عتاة المثقفين، وأتممت العدد بأن جلبت واحداَ من الطبقة العاملة لنفتخر به وبطبقته في هذا العيد، أخبرت زوجتي بالموضوع فرحبت كثيراَ، فهم أصدقائي الذين أسهر معهم كلَ يوم، ومنذ صباح الأول من أيار بدأت بتجهيز نفسي، وشراء الأشياء اللازمة لمثل هكذا احتفال.
بدأ المثقفون ومعهم الواحد من الطبقة العاملة يتهادون إلى بيتي، اكتمل العدد، بعضهم جلب هدية صغيرة وبعضهم قد جلب باقة زهور، شكرتهم جميعاَ للذين جلبوا والذين لم يجلبوا، وكنت قد وزعت الطعام على صحون كرتونية، فكانت زوجتي، أطال الله عمرها، تقدم الصحون الكرتونية من المطبخ وأنا أحمل هذه الصحون إلى أصدقاء الدرب الطويل، وأثناء ذلك بدؤوا يحيون الطبقة العاملة، فيرفعون كؤوسهم المليئة بالسفن أب والكولا ويصرخون في صحة الرفيق فلان الفلاني، فيجيبهم الطرف الآخر بصحة فلان، وهكذا انقضت النصف ساعة الأولى، وحينذاك طلب الشاعر رياض الصالح الحسين قلماَ وورقاَ، فأسرعت ألبَي طلبه، والشاعر رياض لمن لا يعرفه، مصاب بالصمم، معنى ذلك أنَ كل هذه الجلسة ليس له علاقة بها، ورياض أصيب بالصمم، بسبب عملية جراحية فاشلة، منعته من إتمام دراسته، وتوقف عند المرحلة الإعدادية.
كنت أدور بين المطبخ والشبان ألبي مايحتاجونه فمن طعام إلى خضرة إلى سفن أب إلى كولا، إلى كلَ ما يلزمهم، حاول بعضهم أن يساعدني فرفضت ذلك واكتفيت أنا وزوجتي بتقديم ما يحتاجون إليه، صاروا يغنون ويشربون بصحة أبطال الأول من أيار، ورياض كان لا يبالي بشيء، كان ممسكاَ بالأوراق والقلم يسجل شيئاَ ما، ببساطة لأنه لم يكن يسمع مما يقال شيئاَ، كنت أعرف عنه الشيء الكثير، عن سلوكه اليومي، كيف يجلس، كيف يأكل، كيف يمشي، كنت لا أتركه إلا ساعة يذهب إلى بيتهم، نقف في طرف الشارع، ونمضي ساعة أو أكثر ونحن نتحدَث بالشعر والشعراء، هذا جيد وهذا يكتب الشعر الموزون والمقفى وذاك يكتب في التفعيلة، والشاعر الفلاني ليس له مبدأ يقف عليه، إلى ما هنالك من أخبار لا تهم أحداَ نهائياَ، وعندما نشعر أنَ الليل قد بدأ يتجلَى نودع بعضنا على أمل اللقاء غدا، يحمل قميصه على كتفه ويمضي وحيداَ إلى البيت.
كنت أعرف رياض جيداَ، فهو عندما يحب فإنه يحب بطهرانية، يحب بإخلاص وشفافية، ومرَة أحبَ إحدى الفتيات فكان يخلص لها حتى إنه كان على استعداد أن يهديها ديوان شعر كاملاَ، بشرط أن تبقى معه، حتى إنه حفظ المناسبات المهمَة وصار يهديها القصائد التي يكتبها لها، ويسمعها إياها، وهي تشنف آذنيها وتغمض عينيها عندما يلقي إليها قصائده وذلك على مقعد في حدائق الجامعة، وعندما كان الليل يرخي سدوله، كانا يودَعان بعضهما، ويمسك بيديها في أحد الأزقة، لا يتركان بعضهما حتى أنبهما عدَة مرات إلى وضعهما، فعند ذلك يمضيان وهما يسيران ووجهيهما إلى بعضهما كما في الأفلام الهندية، ولا تكاد تمرَ مناسبة إلا ويتذكر أنثاه فنكون جالسين، وعندما تقترب الساعة من الثانية عشرة، ينهض رياض إلى بيت الصديقة، فيقف في طرف الشارع، ويشعل عود كبريت، وهي بالمقابل من شرفتها تشعل عود كبريت، ثمَ يشعل واحداَ آخر للوداع مع ابتسامة صغيرة، وهي تشعل واحداَ آخر دليل على أنَ اللقاء قد انتهى، ثمَ يعود إلينا لنكمل السهرة وفي الطريق يحكي عن كلَ مافعلاه.
انتهت سهرة عيد الطبقة العاملة، فالشبان قد خبت أصواتهم، وأنا قد نالني التعب، وزوجتي كادت تغفو، والشاعر رياض كان يخربش على الورق، بذهن متوَقد وعزيمة مستيقظة، ونشط الشبان للذهاب، وفجأة صاح رياض، سأسمعكم قصيدة كتبتها هنا في السهرة، لا ترحلوا، فجلس الشبان على مضض، وعند ذلك بدا القصيدة، قال ما ملخصه: إنني (المقصود أنا) أملك بيتاَ واسعاَ، وأتمدد على الأريكة برياحة، أشرب الشاي وأداعب زوجتي، وهي تكون مشغولة بأمور المطبخ، فتبتسم لي، أقرأ في كتاب معين ثمَ ألقي به وراء ظهري، أذهب إلى العمل غير المريح، فأتأفف منه ثمَ أعود وتكون زوجتي قد أشعلت الحمام فلا أستحم، قد أخلد إلى النوم مبكراَ، فيرتاح الناس من مشاغباتي، أما أنا (المقصود رياض) فإنه سيتمشى مع صديقته إلى تلك العمارة، ويصعدان الدرج وحين لا يجدان أحداَ سيدلفان إلى سطوح العمارة، ويجلسان وظهرهما إلى جدار غرفة الغسيل، يمسكان أصابع بعضهما ويتمنيان أن يحتويهما بيت له سقف وجدران، مثل بيتي، يمضيان فيه أجمل أيام العمر، لا أحد يعكر استمتاعهما، يذهبان إلى المجهول، يمسكان بأيدي بعضهما، يلهوان في الطريق، وقد تحتويهما الحديقة، فيلهوان بالزهور ويتحولان إلى ندى.
كان رياض يقول هذه القصيدة وأنا صامت، يغلي الدم في عروقي، والأكثر من ذلك أنَ بعضهم كانوا يشجعونه، بإلقاء كلمات الإطراء بين الفينة والأخرى، كانوا يقولون: أجد يارعاك الله، ممتاز يارياض، أحسنت، إلى ما هنالك من هذا الكلام السخيف الذي يثيروني به، وعندما انتهى من إلقاء قصيدته العصماء، صفقوا له بحرارة منقطعة النظير، حتى إنَ زوجتي قد استيقظت ومدَت رأسها من المطبخ متسائلة عن الذي حصل.
كان عليَ أن أفعل شيئاَ، لكن باعتبار أنني صاحب البيت، والقصيدة التي قالها الشاعر رياض كتبت باسمي، وأنا وجهت الدعوة لهم، فإني مسامحه ومسامحهم، وأقسم بأنني لن أكرر دعوتي لهم مرة ثانية.