عشق المعرفة بين “الكَتّاب” والكِتاب كرٌّ أمْ فرّ؟
حلب- غالية خوجة
لم تكن هناك شبكة الكترونية في زمانهم، ولا ذكاء صنعي ولا اصطناعي، بل كانت العقول تتعلّم لتكون أكثر تميزاً، وتعشق المعرفة، وتسافر من موطنها إلى موطن آخر من أجل الاستزادة من العلم والمعرفة.
وفي عالم من المتناقضات الذي نعيشه، صارت المعرفة أقرب إلينا من خلال العالم الواقعي والافتراضي، ولكن الغالبية لماذا لا تسعى إليها؟ هل لأن الاستهلاك والسطحية جعلت الأدمغة المعاصرة مسطّحة أيضاً، مما أثّر على نسبة تجاعيد الدماغ كمؤشر على الذكاء؟
سنترك الجزء الأخير من الإجابة للعلماء، ولنستكشف معاً أسباب الابتعاد عن التغذية العقلية الآنيّة والراجعة، والتي تعود لمسببات كثيرة، أولها عدم الاعتياد اليومي على ممارسة فعل القراءة، وثانيها الظروف الاقتصادية في رحلة بحث الإنسان عن حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن والتي تشكّل القاعدة في مثلث الثقافة والمعرفة والإبداع، وثالثها عبارة عن منظومة متشابكة من العوامل الذاتية والاجتماعية التي لا تجعل من القراءة والتعلّم والعلم ممارسة حياتية يومية منها انتشار الأمية، ومنها ندرة تطبيق المعلومات والعلم والثقافة في الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية والعلمية والثقافية، تماماً، كما في مجال العمل، مما يجعل الناس تظن أن الثقافة والمعرفة حالة نظرية لا تنطبق على الواقع العملي، فلا يوظف المتعلمون والمثقفون والمبدعون ما لديهم من بيانات ثقافية وعلمية على الواقع المعاش، مما ينتج عنه حالة من الانفصام على مختلف الصعُد.
إن الحياة لا تتطور إلاّ من خلال المعلومات والثقافة والإبداع، والكون لا يتوقف عند فكرة، أو معلومة، أو حالة إبداعية، أو وسيلة ما، لأنّ ديدنه التطور أيضاً، إذاً، لماذا لا يتمّ التطبيق الواقعي الملائملما تتطلبه حيوية الحياة والكون لتتطابق معه وبأريحية حياة الإنسان؟
هل لأن المعنيين وصلوا إلى حالة من التخبط؟ أم اليأس؟ أم التحجّر الفكري؟ والتكلّس الحداثي؟ أمْ لأن الخلل يكمن، أيضاً، في الجهل الإداري وعدم معرفة إدارة هذه المعرفة والثقافة والإبداع بحكمة ووعي وتوظيفها كما رغيف الخبز في حياة الإنسان؟
مبدئياً، لا بد من التفريق بين المعلومات التي هي عبارة عن بيانات مصنفة تبعاً لموضوعها ومعالجتها وتفسيراتها، وبين المعرفة كمفهوم شخصي ناتج عن الخبرات والمهارات والقيم المتراكمة والتي لا تخلو من كيفية تطبيق البيانات والمعلومات في نسق عملي ويضيف إليها، مما يجعل من الحكمة الناتج الذهبي لهذه العملية التفاعلية والتي تغدو نتيجة بديهية تتسم بالابتكار والحلول والإيجابية بمقياس زمني متسارع على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
وهكذا، لو عدنا إلى زمن “الكتّاب” أو الـ “خوجة”، والذي كان يعلّم الأطفال الأبجدية والقراءة والقرآن الكريم، وإلى اللوحات التوثيقية التي رسمها العرب والأجانب والمستشرقون ومنها لوحة المستشرق الإيطالي نيكولا فورسيلا، لوجدنا كيف لعبت هذه المدرسة التقليدية دورها الفاعل في تنشئة الوعي الإنساني، وبناء عقله لينفتح على الحياة ويضمر المعلومات ويجعلها صريحة أثناء التطبيق اليومي.
والمستغرب أن الغالبية من المتعلمين والمثقفين لا توظف معلوماتها ومعرفتها وثقافتها في حياتها اليومية، وهذا ما نلمسه بوضوح في المدارس والجامعات والجهات المعنية بالثقافة، لأنك إذا ما انتقلت من إحدى هذه الجهات إلى جهة المجتمع العام سواء إلى الشارع العام أو الأسواق، أو أي مكان آخر سياحي أو أثري، لن تجد الفروقات الجوهرية التي تبحث عنها بين هذه العوالم، كونها اندمجت إلى حدّ كبير لتخبرك بوضوح أن الحكمة في إدارة المعرفة والثقافة حالة منزوية في الظل، ترقب الحياة عن بعد كأنها فضاء رقمي لا تعرف كلمته السريّة إلاّ القلة، ولا تستفيد منه إلاّ المتحولات البسيطة لأفراد متناثرين في الحياة لا تقبل بهم عائلاتهم ولا مجتمعهم ولا أمكنة عملهم، فقط، لأنهم يغردون حارج السرب الذي لا يوظف عوامل هذا المثلث المعرفي تطبيقياً، وبالتالي، لا يسعى إلى مزيد من تطويره بحثاً عن الأكثر إضاءة في ظلمات الوعي الحالكة.
وهكذا..، يعاني عشق المعرفة من “فرّ” غالب على “الكرّ”، فلا يستعيد دور “الكَتّاب”، ولا يصرّ على دور الكتاب، ويترك للفوضى الجاهلة أن تعلو إلى ذروة المثلث المعرفي الحياتي متذرعة بأسباب لا تعدّ ولا تحصى، مما يجعل الحكمة مستنفرة بين البراري والجبال والغيوم، هاربة من ضجيج اللحظة المعاصرة، وكم نخشى عليها من أن يأكل بعضها فتصبح في حالة انفجار أقرب إلى نجم “السوبرنوفا”.