مفاعيل الحرب الساخنة في السودان لم تبدأ في الظهور الفعلي
البعث الأسبوعية- ريا خوري
نتيجةً للحرب الدائرة في السودان، التي اندلعت في الخامس عشر من شهر نيسان الماضي، والتي حصدت نتائج وخيمة على الشعب السوداني، فإنّ انفلات الأوضاع إلى هذا الحدّ، يوحي بفوضى عارمة سيكون لتداعياتها الدامية أثر سلبي كبير لا يمكن تصوّره في بلدٍ يعاني أهله من الفقر، والجوع والحرمان، إضافةً إلى الاضطراباتٍ الحزبية والجهوية والفئوية .
الجدير بالذكر أنّ السودان لم يلتقط أنفاسه بعد جراء الشلل الكبير الذي حدث إبّان انتفاضة عام 2019 التي أدّت إلى خلع الرئيس السابق عمر حسن البشير الذي حكم السودان مدة ثلاثين سنة، وعزلها تماماً عن محيطها الإقليمي وعن غالبية دول العالم، ودمَّر اقتصادها، وفتت بنية مجتمعها، وساهم بشكل خطير في إنتاج الثنائية الأمنية القائمة حالياً، انطلاقاً من دعمه وتشجيعه على تأسيس ميليشيات غير نظامية مسلّحة ساعدته في الحرب الشرسة التي جرت في إقليم دارفور.
الحرب الدائرة الآن بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو لا مبررات منطقية لها على الإطلاق، على الرغم من أنّ لكل طرف في الصراع يجد مبررات مناسبة لمنهجه السياسي والأمني والعسكري. من هنا وجب المطالبة بالتوقف عن إطلاق النار على الفور، لأنّ تداعيات تلك الحرب على كافة الأصعدة أخطر بكثير مما يتصوره البعض، ولأنّ أوهام تحقيق الحسم العسكري النهائي الذي يتحدث عنه الفريقان المتصارعان بعيدة المنال عن التحقّق بصرف النظر عن إمكانية تحقيق تقدّم هنا أو هناك، أو خروقات ميدانية عسكرية وأمنية لصالح أحد الفريقين المتصارعين، ذلك أن الأرضية مهيأة تماماً لاشتعال حرب أهلية شاملة لو استمرت الفوضى القائمة على هذا النحو، وهناك استعدادات ميدانية كبيرة ومتسارعة في العديد من ولايات السودان والقبائل لامتلاك السلاح بكافة صنوفه، ومستعدّة للمشاركة بشكلٍ مباشر في الحرب الدموية الطاحنة، لتحقيق طموحات ذاتية، أو لتقديم خدمات عسكرية خاصة لأحد طرفي النزاع الدامي القائم.
وبغض النظر عن التوصيفات والتبريرات التي يستخدمها فريقا النزاع ضد بعضهما البعض، لا يمكن إنكار حالة المشروعية التي يتمتّع بها الفريقان المتنازعان، فقوات الجيش السوداني النظامي لها مهامها التي يحدّدها الدستور والقوانين والتشريعات المرعية، وقوات الدعم السريع نظامية وشُرّع عملها بقانون، وقد قاتلت المتمردين نيابة عن الحكومة الشرعية في دارفور، وولاية النيل الأزرق، وجنوب كردفان منذ عام 2013. هذه الوضعية تزيد من خطورة الحالة الساخنة القائمة، وتربك القوى الخارجية التي تسعى إلى مساعدة السودان في الخروج من محنته القاسية .
فريقا الحرب اللذان يتبادلان أشد أنواع الاتهامات كانا حليفين، وقد تعاونا على التخلص من الرئيس السابق عمر حسن البشير، كما تبادلا الأدوار في مواجهة الانتفاضة الشعبية عام 2019، وتشاركا في ترسيخ الهدوء والأمن والأمان في الفترة الانتقالية التي نصّت عليها اتفاقية جوبا للسلام عام 2020، حتى أنّ الانقلاب الذي تمّ تنفيذه في 25 تشرين الأول عام 2021 ضد حكومة عبد الله حمدوك المدنية كان بالاتفاق بين الطرفين.
من الواضح أنّ مسار الاندماج بين كافة القوى العسكرية، الذي تعهّد به قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو خلال التوقيع على تفاهم 5 كانون الأول عام 2022 أمام ممثلين عن خمسين حزباً سودانياً، لم يسرِ كما كان مقرراً، ودبّ الخلاف الحاد بينهما حول الدمج، وآلياته، وطرق تنفيذه ومدته.
لم تجد الأطراف الخارجية حتى الآن أي فوارق موضوعية بين نهج كلّ من البرهان ودقلو، بما فيهم الأصدقاء التقليديون للطرفين، لكن الحيرة الكبيرة التي تحيط بأصدقاء السودان وأشقائه لن تستمر طويلاً ، لأن نتائج الحرب قد تفرز معطيات لا يمكن تصوّرها ومدى خطورة نتائجها، وبالتالي فهؤلاء ملزمون بتحديد خيارات تُجنب الشعب السوداني المزيد من الويلات والمآسي، وتحفظ وحدة الدولة المهدّدة حكماً إذا ما استمرت الحرب الساخنة على هذا النحو .
في الأيام الأولى للحرب العبثية الدامية برزت مجموعة من التجاوزات لا يمكن إغفالها أو السكوت عنها، وهي تفتقد إلى الحد الأدنى من الانضباط العسكري الذي تفرضه القوانين والتشريعات الدولية، فقد تعرّضت العديد من البعثات الدبلوماسية للاعتداء والحصار والضغوط الكبيرة، كما قُتل ثلاثة من موظفي أعمال الإغاثة الإنسانية التابعين لهيئة الأمم المتحدة، وتعرّضت العديد من المشافي والمراكز الطبية في العاصمة الخرطوم، وبعض المدن للهجمات العسكرية، ونفذّت القوى المتنازعة اعتداءات وحشية على فرق الإسعاف المحايدة، بما في ذلك أثناء فترة الهدنة ووقف إطلاق النار التي أُعلنت بمناسبة عيد الفطر.
في حقيقة الأمر إن جلّ الأعمال الخارجية الخطيرة لاستمرار الحرب كبيرة جداً، وهي لم تبدأ في الظهور الفعلي بعدُ على الرغم من كل ما حدث، فالسودان يقع في قلب القارة الإفريقية، وهو جزء كبير وهام من الوطن العربي، ويتوسّط منطقة فيها صراعات ونزاعات دولية كبيرة مازال عدد منها مستمر منذ أكثر من عشر سنوات، فهو أي السودان يقع على حدود سبع دول، هي مصر وجنوب السودان وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإرتيريا وإثيوبيا، واجهت كل منها حرباً ساخنة أو اضطرابات سياسية أو اضطرابات مدنية عنيفة في السنوات الأخيرة.
وعليه الأمر يحتاج إلى قوى تشكّل جبهة لإيقاف الحرب بسرعة قصوى، لأنّ مخاطر حدوث تداعياتها على الصعيد الإقليمي ستكون عالية بالنظر إلى الأهمية الجيوستراتيجية للسودان كونه يقع عند تقاطع المحيط الهندي والقرن الأفريقي والوطن العربي.
لا يبدو أي حل سياسي يلوح في الأفق حتى هذا اليوم، وباتت هذه الحرب الشغل الشاغل لكل وسائل الإعلام المرئي وغير المرئي في العالم . لكن ما نلحظه هو النشاط الواضح للدبلوماسية، وما نتج عنها من إقناع الفريقين المتحاربين بفتح ممرات آمنة لإجلاء أكثر من ستة آلاف محاصر من غير المواطنين السودانيين، وما عدا ذلك فإن الحلول السلمية وصوت العقل والاحتكام إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى وقف إطلاق النار، ووقف حد لهذا الصراع، لا يزالان بعيدي المنال في الوقت الحالي .
الجدير بالذكر أنّ السودان شهد في هذه المرحلة العديد من المبادرات لوقف القتال وإيجاد حل سياسي دائم من قبل منظمة الوحدة الإفريقية، ودول مجاورة أخرى، لكن تبقى العقدة في كلا الفريقين المتحاربين اللذين يؤكدان على احترام عودة العسكر إلى الثكنات، وتسليم الحكم إلى المدنيين، وهو أمر يبدو من الصعب أن يتحقق، ويبقى في خانة المناورات، وكسب التأييد من جهات تصنف نفسها باعتبارها الممثل الحقيقي للمجتمع الدولي.