صورة الرجل في شعر نزار قباني
حمص – آصف إبراهيم
خاض الكثير من النقاد والدارسين تجربة الكتابة عن شعر نزار قباني، وقد ركز معظمهم على شعره في المرأة، حتى نُعت في الكثير من هذه الدراسات بأنه شاعر المرأة، لكن الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور جودت إبراهيم، يغرد خارج السرب في دراسة ألقاها في مقر اتحاد الكتّاب العرب في حمص تناول فيها صورة الرجل في شعر نزار قباني ليحاول فيها الردّ على من حصر شعر نزار بالمرأة تحديداً، فقد حاول في دراسته هذه تسليط الضوء على جانب مهمّ من جوانب شعر نزار قباني، غفل عنه الدارسون، هو الرجل، وحجّتهم في ذلك أن نزاراً شاعرُ المرأةِ، ولكنّ محاضرنا إبراهيم رأى فيه أيضاً شاعر الرجل، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من الرجل، وحتى عندما يتكلم عن المرأة فإنّه يصوّر لنا نوعاً من الرجال، فيكشف عن قناعاتهم وأسرارهم. فقد هاجم نزار في شعره ضرباً من الرجال، وبيَّن مواطنَ الخللِ والفساد عندَهم، كما أشاد بالرجال الإيجابيين، فتكلم عن الرجل الشريف والرجل الوطني، وغيرهما، ومن هذه الصور.
صورة الرجل العاشق
يعدُّ الغزلُ من أبرز الأغراضِ الشعريّة عند هذا الشاعر، فقد أنفق باكورةَ عمرهِ، ومعظمَ شبابِه في الكتابة بهذا الغرض، وقد كان ديوانُه الأول “قالتْ ليَ السمراء” عام 1944م فاتحةَ شعرهِ الغزلي، ولذلك كانَ الرجلُ العاشقُ يبرزُ في معظم قصائدِه. يقول نزار: “أنا من أسرةٍ تمتهن العشق، والحبُّ يولدُ مع أطفال الأسرة كما يولد السكّر في التفّاحة”.
الرجل المغامر
الإنسان كائنٌ حيّ، يخضع لمؤثراتٍ كثيرة تجعله يتصرّف على هذا النحو أو ذاك، ولكنّنا مع ذلك لا نشكُّ في أنه يقوم بموازنات ومفاضلات بين الأمور، وعلى الرغم من ذلك فإنّه في بعض الأحيان يتصرّف بعكس ما تمليه عليه تلك المفاضلة، فيخوض مغامرات لا يُوْثَقُ بنتائجها، وغالباً ما يكون ذلك في الجانب الوجداني من النفس الإنسانية، كحالة حب شديدة، أو صدمة عاطفية أو غير ذلك، وربما رأينا في قصيدة “أحبُّك جداً” شبيهاً لهذه الحالة. ففي هذه القصيدة يصور لنا الشاعر صورة العاشق المغامر اللامبالي، والذي ترفّع عن الرذائل وعن عالم المحسوسات ليعبّرَ لنا عن حبّه الصّادق الكبير الذي لا تحدُّه حدود.
ثم يصرّح الشاعر بعد ذلك بأنه يغامرُ بروحه ويقامرُ برأسه، على الرغم من خطورة ذلك الأمر الذي يُقبل عليه، فيقول:
وأعرفُ أنّي أقامرُ
برأسي وأنّ حصانيَ خاسرْ
وأنّ الطريقَ لبيتِ أبيكِ
محاصرٌ بألوفِ العساكر..
الرجل المهزوم
إذا قرأنا قصيدة “يوميات رجل مهزوم” فإننا نشعر بِضَعْفِ ذلك العاشق، وترسم مخيّلتُنا صورةً واضحة وجليلة لذلك العاشق المهزوم، الذي ذاق طعم الحرق، وطعم الشنق في حبه هذا، يقول:
لم يحدثْ أبداً..
أنْ أحببتُ بهذا العُمقْ
أنّي سافرتُ مع امرأةٍ..
لبلادَ الشوقْ
وضربتُ شواطئَ نهديها
كالرعدِ الغاضبِ أو كالبرقْ
ففي قوله هذا دليل على أنه أحبّ من قبل، ولكن ربما كان حبه ضعيفاً ولم يصل إلى هذا المستوى، أما الحبُّ الحالي فنراه يحطّم كل شيء، لقد أحدث انقلاباً في حياة الشاعر حتى أنّه ليشكُّ في تجاربه الماضية فيقول: أنا في الماضي لم أعشق ولم أعشْ تجربةَ حبٍّ حقيقية، بل كنتُ أمثّل دور العشق دون أن تظهر علي أمارته التي لا تخفى على أحد.
الرجل المخدوع
من يمعن النظر في قصيدة “خربشات طفولية” يرى تلك الآثار التي خلفها الغدر والخداع، يقول:
خطيئتي الكبيرةُ الكبيرة
أنّي يا بحريةَ العينين يا أميرة
أحبُّ كالأطفال
أنّي أعيشُ دائماً بحالة انبهار
وأنّني مهيأٌ للعشق يا حبيبتي
على امتداد الليل والنهار.
يعاني الشاعر في هذه القصيدة من ألم الخداع، وكأنّ الشاعر يندم على هذه الطريقة التي تعامل بها، وربما كان ذلك لقناعته بأنّ هذا الأسلوب في المعاملة لا يثمر وخاصة في هذا الوسط الاجتماعي الذي يزخر بالغدر والخداع، لقد تعامل الشاعر ببراءة وبساطة مع كلّ من حوله كما يتعامل الأطفال، فكان حبه بسيطاً ونزيهاً كحب الأطفال، وقد عَدّ الشاعر ذلك غلطة، وربما كانت كذلك في هذا المجتمع.
الرجل الشرقي
تُعدُّ معظم المجتمعات العربيّة والشرقيّة مجتمعات ذكوريّة، تعيشُ حالة التخلّف الاجتماعي، ويظهر هذا التخلف واضحاً جلياً في تسلّط الرجل على المرأة، وقد صوّر لنا نزار قباني تلك النظرة المتخلّفة في قصيدة “إلى رجل ما” والتي قال فيها:
أخافُ أنْ أقولَ ما لديّ من أشياءْ
فشرقُكم يا سيّدي العزيز
يُصادرُ الرسائلَ الزرقاءْ
يستعملُ السكيَّن والساطورَ
كي يخاطبَ النساءْ
فالمرأةُ في هذا الشرقِ تنتقلُ من عبوديّةِ الأبّوة إلى عبوديّة الزوجيّة، دون أن يكون لها كيانٌ خاص بها.
الرجل الوطني
بدأ نزار قباني بكتابة الشعر السياسي بشكل فعلي بعد هزيمة 1967م، وإن كان له بعض القصائد الوطنية قبل ذلك، فبعد هذه الهزيمة أعرض هذا الشاعر عن الغزل والمرأة، وبدأ يكتب شعراً وطنياً قومياً غاضباً، فقد كتب “خبز وحشيش وقمر” عام 1954م، و”رسالة إلى جندي في جبهة السويس” عام 1956م.
فهذه القصائد تعبّر عن مرحلة التكوين التي أخرجت لنا فيما بعد شاعراً سياسياً فذاً.
ولعلّ أفضل ما يعرفنا بشعر نزار قباني وتكوينه الوطني ما جاء في كتابه “مع الشعر والجنس والثورة” يقول: الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً.. ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً، يقبلون نزار قباني قبل 5 حزيران، ويرفضون نزار قباني بعد 5 حزيران. يضعوني في زجاجة الحب.. ويختمونها بالشمع الأحمر.
الرجل الخائن
ولم يبقَ بعد حزيران للشاعر سوى حصان واحد يمتطيه، هو الغضب.. وانطلاقاً من هذه القناعة أسرج شاعرنا حصانَه، وسلَّ سيفَه، مُعلناً حربه على الأعداء وعلى أذيالهم من الخائنين يقول:
متى تفهمْ؟
متى يا سيّدي تفهمْ؟
بأنّي لستُ واحدةً كغيري من صديقاتكْ
ولا فتحاً نسائيّاً يُضافُ إلى فتوحاتكْ
ولا رقماً من الأرقامِ يعبرُ في سجلاّتكْ؟
متى تفهمْ؟
متى تفهمْ؟
تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ
كممسحةٍ.. تمرّغ في ضلالاتكْ
لكَ البترولُ.. فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ
كهوفُ الليلِ في باريسَ.. قد قتلتْ مروءاتكْ
على أقدامِ مومسةٍ هناكَ.. دفنتَ ثاراتكْ
الرجل المتغطرس
ولعلّ شخصية الحاكم المتغطرس من أفضل الشخصيات التي صورها لنا هذا الشاعر المبدع، وربما يعود ذلك إلى طبيعة هذا الشاعر وما يتمتّع به من عزة نفس واعتداد بالذات. ولكن هذا لا يعني أن نزاراً كان إنساناً متغطرساً، وإن أجاد تصوير ذلك النموذج، ويتكئ نزار على التاريخ في ذلك التصوير، فيستلهم منه بعض الشخصيات العظيمة، ويقوم بتضخيمها وإضفاء القداسة عليها، ففي قصيدة “السيرة الذاتية لسياف عربي” يقول:
أيّها الناسُ
لقد أصبحتُ سُلطاناً عليكمْ
فاكسروا أصنامكم بعدَ ضلال،
واعبدوني ..
إنّني لا أتجلّى دائماً
فاجلسوا فوقَ رصيفِ الصبرِ،
حتّى تبصروني.