لكل هذا.. مرآتان!
حسن حميد
أحتبسُ دمعي رغماً عني،
وأنا أرى ما أرى من همجية وممارسات وحشية يقترفها الاحتلال الإسرائيلي في بلادنا الفلسطينية العزيزة في هذه الأيام، ومنذ خمس وسبعين سنة، الذي تغوّل في عالم الدموية والبطش حتى بات دارةً للرعب والإخافة والإرهاب والموت، فلا شيء يصدر عنه أو يفكر به سوى ما ينجزه بالموت وتغييب الآخر ، وسوى ما يقوله ويصرّح به من خطابات الموت، وسوى ما يتفاخر به من تعداد يومي لضحاياه، وما يتباهى به من إنه عبّد الدروب ما بين القرى والمدن والمخيّمات.. والمقابر المحيطة بها. الموتُ، وما ينجزه بالقتل هما ثقافة هذا المحتل الذي لم يرتو، طوال خمس وسبعين سنة، من دمائنا بعد!
أحتبس دمعي رغماً عني،
وأنا أرى ما أرى من أحقاد إسرائيلية تحاول، بكلّ ما تمتلكه من قوة وعنف، أن تقتل الأطفال قبل الشبان والرجال، وقبل النساء والشيوخ، وأن تجعل الجميع، أحياءً وأمواتاً، في دائرة الموت، بعضهم يشيع بعضهم الآخر في كرنفال من الحزن المديد تاريخه من تاريخ إعلان وعد بلفور عام 1917 وحتى هذه الساعة، وما من أحد ، من أسياد النفوذ والقوة الذين أسسوا لوجود هذا المحتل لبلادنا، يقول: كفى.
بلى، ها نحن، وفي ذكرى نكبتنا الخامسة والسبعين، نلتفت إلى الوراء للمراجعة، واستخلاص العبر والمعاني، والوقوف في مواجهة مرآتين شطرتا حياتنا بالقسوة الكاملة، مرآة عدونا الذي الذي احتلّ الأرض واغتصبها بالقوة، ونشر الخوف، وعدّد السجون، وفبرك الأكاذيب والروايات المزيفة، واختلق التواريخ وبثّها في جميع أرجاء العالم ، وجعل من تواجده فوق أرضنا كمائن للقوة، وأفخاخاً للإبادة التي يمارسها بحقّ كلّ ما هو فلسطيني، وبحقّ كلّ ما يمتّ للبلاد الفلسطينية من صلةٍ بالتاريخ، ونسبٍ للعمران والحضارة، وأحلامٍ للحياة العزيزة، حتى صار هذا المحتل المثال الأوفى للظلم والعنصرية والكراهية في العالم كلّه؛ والمرآة الثانية هي مرآة شعبنا الذي عاش حياة قرن كامل بأيامه وساعاته، جيلاً فجيلاً، عاشقاً للأرض التي عمّرها، وعارفاً بالتاريخ الذي كتبه، وحافظاً للسيادة الوطنية التي صانها ودافع عنها طوال سنوات من القتل والتهجير والتشريد ، حتى صارت التضحيات النبيلة تراثاً وطريقاً وكتاباً وصيغة عيش من أجل استعادة ما سُرق، وما نُهب، لأنه آمن بأن لا كرامة ولا حياة من دون وطن عزيز، وها هي القرى المدمّرة، والمخيّمات التي احتوت الأسى، والمقابر الوسيعة، والأحلام المغتالة، والمجازر، وخيبات الأمل المرّة، والشهداء، والسجون، والمعتقلات، وكلّ أشكال الحصار والإماتة، تبدو ترسيماتها ظاهرةً في المرآة الفلسطينية!
الآن، وفي ذكرى نكبتنا الخامسة والسبعين، نرى مداميك الأحزان داكنة السواد، مثلما نرى مداميك الأمل بادية النور، والعزائم تتجلى، والهتاف الروحي يتعالى بأنّ النهار الفلسطيني المحلوم اقترب فجره، مع أن سطوة المحتل الإسرائيلي تبدو في أبشع وجوهها، وفي جميع أرجاء الأراضي الفلسطينية، لكن بسالة أبناء شعبنا وقوتهم المكنوزة تبدو وتتجلى في أبدى وجوهها وفي جميع أرجاء البلاد الفلسطينية العزيزة، ولا سيما في هذه الأيام، في قطاع غزة الأشم، فهم يواجهون طائراته التي تدمر البيوت، وتحرق المحاصيل، وتقتل البشر صغاراً وكباراً، نساءً وشيوخاً في مشهدية مسرحية عاتمة شديدة السواد، فتتعطّل الحياة وتتوقف بسبب الوحشية، وعماء القوة، والحقد الرجيم، والعالم في أبشع صورة من صور التغابي، والشرود، واللامبالاة، واللا أخلاقية!
بلى، ها هي الصورة بادية، أيام من دم، وحقد، ونار، وتشويل للأحزان حتى صارت فضاءً للبلاد الفلسطينية، وأثواباً مصبوغة بالدم تبديها مرآة الاحتلال، وفي المقابل لها، حالات صمود ومواجهة بهّارة لأهلنا في قرانا ومدننا ومخيماتنا، والأبناءُ في عهد ووثاق أبديين بأنّ الأرض هي الأرض، وأنّ كتاب التاريخ هو الكتاب، وأنّ المستقبل جلي مُنار بقولتهم: إنه لا بدّ من هزيمة هذا العدو /الوحش /القاتل/ الظالم/ الذي بات يترنح لأن السوس نخر مشروعه، ولأنّ مشكلاته تكاثرت حتى عمّته، ولأنّ ختام الظلم هو الزوال والهزيمة والتلاشي.
أيام من عزّة، وجسارة، وتضحيات، وثبات، وصبر، وكرامة، تبديها المرآة الفلسطينية اليوم، وفي الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، من أجل محو ظلمتها الغامقة، وبالنورانية التّامة، نورانية المواجهة.. والحقّ!
Hasanhamid55@yahoo.com