صورة المنطقة بين دمشق والقدس
أحمد حسن
عام 1799 أطلق “نابليون بونابرت” رسمياً إشارة البدء في المجزرة الكبرى -“النكبة”- حين أصدر بيانه الشهير الذي أعلن فيه ضرورة إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين تحت حماية فرنسية، لتحقيق هدفين اثنين أولهما تعزيز الوجود الفرنسي في المنطقة، وثانيهما إيجاد “حلّ” للمسألة اليهودية التي كانت تقضّ مضجع أوروبا المسيحية بكاملها منذ قرون عدّة.
عام 2011 وُضعت مخطّطات قديمة -بدأ رسمها فعلياً مع بدء العمل، البريطاني تحديداً، على تأمين أسس نجاح “النكبة”- لإركاع سورية وإنهاء دورها القومي موضع التنفيذ على سكتين رئيسيتين، أولهما نفي السوري من المكان -الجغرافيا- لتقليل فاعليته وهذا ما يفسّر سابقاً سايكس- بيكو، وحالياً التعنّت الغربي الفاجر في موضوع المهجّرين، وثانيهما نفيه من الدور التاريخي –الذاكرة- المولّد للمستقبل المنشود وهذا ما يفسّر أيضاً الضخّ الإعلامي الهائل بهدف كيّ الوعيّ الشعبي المقاوم فيها كما بهدف تدمير بنيتها وأنموذجها الوطني الجاذب.
بيد أن حشرجات الموت لهذين المشروعين المجرمين أصبحت، نظراً للصمود البطولي للسوريين والفلسطينيين، تتردّد شيئاً فشيئاً لتبدأ المنطقة مؤخراً بخطوات، قد تبدو للبعض بطيئة، في استعادة طبيعتها السابقة، وإن بطبعة منقّحة، يتغيّر فيها المشهد الاستراتيجي السابق بعد عقود عدّة -كان العقد الأخير أخطرها- تصادمت فيها الإرادات والأوهام والأطماع وحفلت بالأخطاء والخطايا، لكن مجمل ما دار فيها أثبت حقيقة واحدة مفادها أنه لا بد من التشبيك بين دول المنطقة على أعلى مستوى وعلى قاعدة الاحترام المتبادل للسيادة كي يكون لشعوبها مكان في عالم يتسم بحالة من السيولة السياسية واللا يقين في العلاقات الدولية.
هنا “نفهم” بروز أمرين متلازمين ومتزامنين أولهما “الاستشراس” الإسرائيلي ضد قوى المقاومة والشعب الفلسطيني في الداخل عبر تصعيد العدوان الإجرامي والقصف الهمجي للسكان المدنيين، وثانيهما “الاستشراس” الأمريكي في محاولة عرقلة عودة الإقليم إلى سورية عبر أساليب الضغط والترهيب ذاتها، وآخرها القانون الذي يُحضّر في أروقة الكونغرس مستهدفاً سورية والدول التي عادت إليها بعقوبات اقتصادية ليس لها في المحصلة النهائية إلا أن تعرقل إعادة الإعمار وخطط عودة المهجّرين إلى مناطقهم، بالتوازي مع محاولة ضخّ الحياة في تنظيمات إرهابية جديدة وكيانات و”ائتلافات” سياسية تابعة وخلق أخرى جديدة بما يعني رفض قيامة سورية.
بيد أن الواقع والوقائع تقول علناً إن العدوان الإسرائيلي الأخير على الشعب الفلسطيني انتهى -رغم ما خلّفه من شهداء وتدمير في البنية التحتية- إلى الفشل، وإن ما فشلت به واشنطن خلال الأعوام الماضية لن تنجح به خلال المرحلة القادمة، بينما سورية تتعافى من أزمتها وتستعيد مكانتها ودورها، ففي الوقت الذي كان فيه البعض يطمح مثلاً إلى التدخل بـ”الفرض” والإرغام في بناء وتشكيل نظامها السياسي وتوجّهاتها الاستراتيجية ها هي تنهض لتستعيد دورها كلاعب مهم في تحديد مصائر سياسية لأفراد وأنظمة، والانتخابات التركية هي المثال البارز الآن، فبغض النظر عمّن سيفوز هناك يمكن القول بكل ثقة إن الانحياز السياسي إلى دمشق وليس ضدها -كما كان الحال سابقاً- يعدّ اليوم من أهم العوامل المفيدة في التنافس الانتخابي هناك، وذلك من علامات انتصارها الكبرى.
خلاصة القول، المنطقة تزيل عنها، بدماء أبنائها وأرواحهم، رواسب الفترة الماضية، وصورتها الجديدة ترتسم ممتدة بين دمشق والقدس، فتصبح ذكرى النكبة، التي تصادف تاريخ اليوم، محطة مهمّة جداً في طريق الحرية، ويصبح التحوّل الكبير للمنطقة نحو دمشق محطة مهمة في طريق المستقبل القادم.. وما النصر إلا صبر ساعة.