نَدَم!!
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي منكمش الجسم، وكأن الفصل شتاء، وفور جلوسه قال: “الحقْني بشيء ساخن، يرحم أهلك!”، فنهضتُ ووضعتُ إبريق الزّهورات على نار الغاز، وكان الغاز متوفّراً لحسن الحظ، وقلت: “على عَجَلة النّار”.. فركَ راحتي يديه بقوّة وهو يوحوح، وقال: “كم أنا نادم لأنّه ليس لديّ بيت في إحدى هذه القرى”..
قاطعتُه: “هل أُتيح لك ذلك ولم تفعل؟”.
أجاب: “لا والله”.
قلت: “ماذا كنتَ ستفعل؟”.
قال: “أيّ شيء تفعله في بيت ريفي، له حاكورة، تستطيع أن تزرع في أرضها بعض الخضراوات، وأن يكون لديك بعض الدجاج، فقد صار ثمن البيضة ألف ليرة”..
قاطعتُه: “ما فائدة التّمنّي الذي لا يمكن تحقيقه؟ المهمّ، قلت إنّك (نادم)، فهل خطر ببالك أن تتوقّف عند مفردة النّدم”؟.
شيء كما الحيْرة بدا على وجهه وقال: “هذا لم يخطر لي ببال، وليس في ذاكرتي عن النّدم إلاّ ما يتداوله الناس، حين يقولون لِمَن سيقُدم على عمل “الله لا يندّمك”، ممّا يدلّ على أنّ النّدم حالة سلبيّة”.
قلت: صدقتَ، فالنّدمُ مؤلم، وهو حالة إنسانيّة، ولا نعرف حيواناً يبدو عليه شيء من النّدم، راقب الحيوانات المُفتَرِسة، رُغم الافتراس، وهي ليست عاقلة، فهي لا تعرف النّدم؟!! بينما يوجد في بني البشر (عقلاء) يفترسون بطريقة أكثر حيوانيّة من الوحوش، ومنهم من لا يشعر بأيّ حالة من حالات النّدم، وهؤلاء في التقويم الأخلاقي أكثر توحّشاً من وحوش البراري التي لا تفترس إلاّ لتأكل، بينما الجشِع، والمُستغلّ، والطّاغوت الذي لا يفهم منطقاً إلاّ منطق الطغيان هو أكثر شراسة، وتدنّياً أخلاقيّاً أكثر من تلك الوحوش، أنظرْ إلى ما يفعله الطّاغوت الأمريكي من تجويع، وحصارات، وتعدّيات، ومصّ لدماء الشعوب، فهل ثمّة بين الوحوش وحش يحاصر قطيعاً ليمنع عنه أسباب الحياة؟! إنّ الطغيان المعاصر أدنى مرتبة من الوحوش لأنّه فاقد لأيّ عنصر أخلاقيّ، والإنسان بلا قيم أخلاقيّة، في التقييم الحقّ، يضع صاحبه في مرتبة أكثر إيغالاً في التدنّي من البهائم، ويقف في صفه كلّ الذين يستغلّون، ولا تهمّهم إلاّ أنفسهم، لاسيّما مَن هم في وضع قادرون فيه على الفعل الطيّب المفيد، وهم لا يفعلون إلاّ الإضرار، مستجيبين لشَرَه ليس له قرار”.
بعد فترة صمت صفراء قال صديقي هادفاً لإخراجي من الانفعال الذي كتمْتُه، وكنتُ بحاجة لذلك: “هل النّدم حالة إيجابيّة أم حالة سلبيّة”؟
بعد صمت استعدتُ فيه بعض التوازن الخارجي قلت: “يا صديق العمر النّدم لدى اليقِظ، والذي يراجِع نفسه ويتفقّدها لا يخلو من إيجابيّة، ألم يَردْ في بعض الدّعاء… اللهمّ إنْ يكنْ النَّدم توبة فإني أشدّ النّادمين”.
قاطعني قائلاً: في قصّة هابيل وقابيل المذكورة في القرآن الكريم، وردَ عن قابيل إنّه أصبَحَ من النّادمين.
قلت: “يا صديقي الآية الكريمة تقول إنّه بعد أن رأى ما فعله الغرابان اللذان اقتتلا فقتل أحدهما الآخر، وحفر قبراً، وواراه، فقال قابيل: “أَعَجِزْتُ أنْ أكون مثلَ هذا الغرابِ، فأُواري سوءة أخي، فأصبحَ من النّادمين”، فهو، في رأيي، ليس نادماً لأنّه قتل، بل لأنّه لم يعرف كيف يواري، وهذا إيغال فظيع في الإصرار على القتل، وتلك سِمَة كلّ القَتَلَة، على مَدار الأزمنة، أيّا كانت صورة القتل”.
قال: “تقول أيّا تكون صورة القتل، فهل للقتل صوَر كثيرة”؟.
قلت: “نعم له صور كثيرة، فقتْل النفس قتْل، وسلْب اللقمة قتْل، ومنْع الحقّ عن صاحبه قتْل، ومصادرة مستقبل الشعب قتْل، ومنْع العباد من الوصول إلى حقوقهم قتْل…
ورنّ الهاتف الأرضي فانقطع الكلام.
aaalnaem@gmail.com