هشام شربتجي.. رحيل من أضحك وأبكى المُشاهد العربي
أمينة عباس
تتوالى خسارات الوسط الفني السوري برحيل أبي الكوميديا السورية المخرج التلفزيوني هشام شربتجي، وقد نعتْه ابنته المخرجة رشا شربتجي قائلة: “شيخ كار المخرجين وبكلّ فخر والدي هشام شربتجي في ذمة الله، ادعوا له بالرحمة والمغفرة، ولا تنسوا ما قدّمه لنا، فنحن مدينون له بذاكرة نقية”.. كما كتبتْ على صفحتها: “رحل اليوم من كان معلمي الأول، رحل جسداً فقط لكن روحه ستبقى عالقةً في كلّ تفاصيلي، في كل لحظةٍ علَّمني فيها كيف أقف خلف الكاميرا وأدير حركتها، في كل لحظةٍ ناديتُ فيها “بابا” ووجدتُه بجانبي، في كل كلمةٍ قالها لي يوماً وتقبلتُها أو حتى رفضتُها، في كلّ عناقٍ وحبّ وفخر.. أنا مَدينة لك بكل لحظة نجاح عشتُها لأن الفضل كان فيها لك، مَدينة لك بكل هذه السمعة الطيبة التي ورّثتَني إياها وحمَّلتَني مسؤوليتها أضعافاً مضاعفة، مَدينة بكل لحظة صدق وأمان وأمانة ونصيحة في كل عمل كنتُ أقدمه للناس ليكون بأبهى صورة.. كنتَ لي الملجأ والعزّ والسند، وسأكمل الطريق بعدك وأبقى حريصة على تنفيذ كلّ تعليماتك التي رسّختَها فيّ، وأعدك أنني سأكون أمينة على عملي وأصبح أفضل، لكنني أعرف أنني لن أكون مثلك لأنك شخص لا يتكرر”.
ذاكرة الفن
ونعاه الفنان أيمن زيدان قائلاً: “يختطف الموت مبدعاً حفر في ذاكرة الفن السوري عميقاً، في الإذاعة والتلفزيون والمسرح، والحديث عن أهمية مُنجَز هشام شربتجي لا تنصفه بضع كلمات.. وداعاً يا صديق المشوار الذي كان حافلاً بالبحث والشغف.. وداعاً يا كبير صنّاع البهجة.. كم أوجعني رحيلُك”.
مرحلة هشام شربتجي
وأشارت الإعلامية نهلة السوسو إلى أن إذاعة دمشق ذات التاريخ العريق مرّت بمرحلة يمكن وصفها بأنها مرحلة هشام شربتجي: “إذ كان ذاك الساحر الذي أمسك بناصية الإذاعة دون منافس وقدّمها للبيوت السورية من الشمال إلى الجنوب تحت مسمّى “دمشق معكم على الهواء”، ومنها سارت كل الإذاعات العربية على خطاه”، مبيّنة أنه كان في الصباحات الباكرة يحوّل الفنيين والمذيعين والمعدّين إلى منشدين بطريقته، وفي الاستراحات كانت أحاديثه علوماً في فن التواصل وفن الكتابة الدرامية بكل صنوفها فلم يصل إلى قامته الإذاعية أحد، لا في الفترات المفتوحة ولا في التمثيليات، وما زالت تذكر تعقيب مخرج إذاعي مصري كبير على مسلسل شربتجي “أحمد بن فضلان” في أنه عمل سينمائي وليس إذاعياً في إحدى مهرجانات الإذاعة والتلفزيون، من هنا ترى السوسو أن هشام شربتجي جمرة متقدة من الصعب أن تفقد حرارتها بالرحيل.
شيخ الكار
لُقّب هشام شربتجي بـ أبو الكوميديا السورية الحديثة وشيخ الكار، وهو اللّقب الذي ناله بجدارة نظراً لأهمية أعماله وحرَفيتها، وهو من مؤسّسي نهضة الدراما السورية وصانع للعديد من النجوم السوريين، وفي رصيده عدد كبير من الأعمال التلفزيونية التي تُعدّ من روائع ما قُدّم في الدراما السورية، وكان يردّد دوماً: “أنا الهاوي الأبرز بعد 50 سنة عمل ولستُ محترفاً”، وكان يرفض أن يُقال أن زمنه ولّى لأنه كان يحاول التقدم على مخرجي اليوم برؤيته وأفكاره، دون أن يتردّد في أن يصف نفسه دائماً بأنه مخرج ديكتاتور لقناعته أن المخرج يجب أن يكون قائداً للعمل الفني، وهذه هي مهمة المخرج حيث كان الإخراج بالنسبة له مهنة سامية.. يقول: “الطبيب قد يقتل إنساناً واحداً دون قصد، أما المخرج المتطفل فيقتل جيلاً”، لذلك رفض العديد من الأعمال التي عُرضت عليه لأنها قد تسيء للأجيال وتثير العصبيات، وكان يرى أن أحد أهم أساسيات الفن تحويل الدمامة إلى جمال، والتغيير لا يأتي إلا من حركة مجتمع كامل، فالفن يتحول بتحول المجتمعات ولكن لا يستطيع تغييرها.
الكوميديا مهنة
عُرف هشام شربتجي بمخرج سلسلة النجوم الكوميدية، وكان يؤمن أن الكوميديا تحتاج إلى مخرج جيد وأنها الأكثر تعقيداً من الأنواع الدرامية الأخرى بسبب حاجتها إلى البساطة في تعامل المخرج مع الممثلين، والنص الذي يقوم على أفكار مجردة بعيدة عن العواطف وعن محرّضات مجرّدة تقترب من العقل الإنساني، والتي فيها نوع من المحاكاة العقلية، ولذلك كانت الكتابات الكوميدية هي الأقل في الآداب والفلسفات العالمية، كما كان مقتنعاً أن زمن كوميديا الممثل الواحد انتهى كما كان أيام محمود جبر ودريد لحام وياسر العظمة، وأنه كسر القاعدة منذ مسلسل “عيلة 5 نجوم” حيث لم يعد العمل الكوميدي يقوم على ممثل واحد، وهو لا يقرّ بوجود ممثل كوميدي وإنما ممثل خفيف الظل له طلّة مقبولة على الشاشة، مع تأكيده على أن الكوميديا مهنة، وهو في حياته العادية لا يجيد النكتة، وعندما يُخرِج مشهداً كوميدياً يكون متوتراً، في حين يكون في الأعمال الدرامية أكثر راحة وابتساماً: “لو لم أكن محظوظاً لما استطعتُ أن أضحِك الجمهور”، كما أكد دائماً أن الدراما السورية تفتقد إلى النصّ الكوميدي، وأن معظم كتّاب الكوميديا يستسهلون كتابتها، وعدد كبير منهم لا يعرف تقنيات وأدوات الكتابة التلفزيونية.
علامة فارقة
برز الراحل في الكوميديا حتى صار علامة في مسيرتها، وكانت له نجاحات محققة في الدراما الاجتماعية لم يتوقعها بعضهم، فكانت هذه النوعية من الأعمال علامات فارقة في مسيرة الدراما الاجتماعية مثل “أسرار المدينة، رجال تحت الطربوش، أيامنا الحلوة، المفتاح، مذكرات عشيقة سابقة، رياح الخماسين” وغيرها، في حين غاب عن الأعمال التاريخية لقناعته أن التاريخ مزيّف وغير صادق، أما بعض مسلسلات البيئة الشامية فكان يؤكد أنها أعادت الدراما السورية سنوات إلى الوراء تحت شعار أن “الجمهور عاوز كده” وهو منطق غير صحيح برأيه اتخذه بعضهم لتقديم بعض الأعمال، والدليل أن أعمالاً مهمّة شكلاً ومضموناً قُدمت وحققت نجاحاً كبيراً، مؤكداً في الوقت ذاته أنه انزلقَ مع موضة الأعمال الشامية فقدم مسلسل “جرن الشاويش” الذي تعرض لانتقادات شديدة، موضحاً أنه أحد الأعمال التي قدمها لأنه كان مضطراً للعمل ولم يكن ضمن خياراته، إلى جانب أعمال مثل “على جميع الجبهات” و”ليلة القبض على عليش”، مع إشارته إلى أنه قدمها وكان في نيّته الارتقاء بها نحو المستوى المطلوب: “لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب، وبالتالي يجب أن أعمل، ولهذا قبلتُ ببعض الأعمال انطلاقاً من ثقتي الكبيرة بنفسي بأن أرتقي بسويتها، ولكن ليس كل ما يتمناه المخرج يمكن أن يتحقق”.
مشروع لم يتحقق
وُلد هشام شربتجي في دمشق عام 1948 وتعلم في مدارسها، وفي طفولته شارك في مسابقةٍ نظمتها الأمم المتحدة لأطفال العالم في التصوير الضوئي، وكان حينها يتمنى أن يمتهن الطيران، فسافر إلى مصر ليدرس في معهد إمبابة للطيران، إلى جانب انتسابه إلى كلية الفنون، لكن النكسة دمرت المعهد، فتابع دراسة الفنون والأدب المقارن. وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس من أكاديمية الفنون-المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة عام 1972 سافر إلى ألمانيا ليكمل دراسته، وبعد عودته بدأ هشام شربتجي مشوارَه الفني مخرجاً في إذاعة دمشق بمشاركة الإعلامي نذير عقيل، وأسّس شكلاً جديداً من أشكال الدراما الإذاعية الناقدة، فأصبح اسماً معروفاً بعد أن قدم أعمالاً لاقت رواجاً كبيراً في الإذاعة أولاً، ومن ثم التلفزيون، وقد تميّزت بخفة الظل وملامستها لهموم الناس في الصميم، ومن أعماله نذكر: “أحلام أبو الهنا، يوميات جميل وهناء، مذكرات عشيقة سابقة، عيلة خمس نجوم، مرايا 84، بقعة ضوء، طاش ما طاش”، وفي فترة الحرب على سورية غاب هشام شربتجي عن الإعلام بسبب الحزن الذي عاشه وخوفه من أن ينقله للناس بعد أن قدّم الفرح في أعماله لسنوات وتمنى قبل رحيله أن يصيبه مرض الزهايمر لينسى كلّ سنوات الحرب، وكانت إطلالته الأخيرة في مسلسلَي “مذكرات عشيقة سابقة” و”أزمة عائلية” عام 2017.