المسار المستقبلي للاتحاد الأوروبي وبريطانيا
عناية ناصر
عندما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء عودته من جولته الأخيرة في الصين، إن الدول الأوروبية لا ينبغي أن تكون تابعة للولايات المتحدة، ولا ينبغي جرّها إلى حرب مع الصين، وينبغي أن تكون قادرة على ممارسة الحكم الذاتي الإستراتيجي، كان هناك أصوات احتجاج داخل أوروبا، وكذلك أصوات داعمة لذلك. من المحتمل أن يكون دعم هذا الرأي أوسع مما تمّ التعبير عنه بشكل أكثر انفتاحاً. خلال حديثه عن هذا الدعم الأوسع، صرح رئيس المجلس الأوروبي، ورئيس الوزراء البلجيكي السابق شارل ميشيل أن “عدداً غير قليل من الناس يفكرون حقاً مثل ماكرون”.
كان التعليق الأكثر استفزازاً على الرغم من عدم ورود أنباء حوله هو تعليق يانيس فاروفاكيس، الذي كان وزيراً مالياً سابقاً لليونان في وقت الأزمة الاقتصادية الخطيرة، حين قال: “ليس الأمر أن الاتحاد الأوروبي تابع للولايات المتحدة، بل إنه أسوأ من التابع. لقد كان لدى التابعين درجة من الاستقلالية في ظل الإقطاع. نحن عبيد، ولسنا حتى عبيد، الذين كانوا يمتلكون حقوقاً معينة في ظل الإقطاع”.
تابعون أو عبيد، إن مثل هذه الأوصاف لا تكاد تكون مشرفة لأولئك الذين كانوا حكاماً لإمبراطوريات شاسعة في الماضي غير البعيد، واستمروا في اعتبار أنفسهم يلعبون دوراً مهماً للغاية في الشؤون العالمية. وإذا كان هذا هو الوضع عموماً في أوروبا أو الاتحاد الأوروبي، فما هي العبارات الصحيحة لوصف بريطانيا، التي كانت ذات يوم أكبر قوة إمبريالية في العالم، والتي كانت في العقود الأخيرة أقرب إلى الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى تقريباً لدرجة أن رئيس وزرائها آنذاك طوني بلير أصبح المدافع الرئيسي، إلى جانب جورج بوش، لغزو العراق عام 2003 وما تلاه من تداعيات مروعة، والتي يمكن أن توصف بأنها أفظع جريمة في القرن الحادي والعشرين حتى الآن، وهي فترة كانت مليئة بالعديد من الجرائم الدولية الكبرى.
هل تودّ بريطانيا أن تكون جزءاً، وحليفاً وثيقاً في أي حرب مستقبلية للولايات المتحدة ضد الصين، أم أنه من المحتمل أن تكون حليفاً في أي حرب مستقبلية غير عادلة ومدمرة مثل غزو العراق؟. قد لا يكون معظم البريطانيين سعداء بهذا الأمر على الإطلاق، لكن هناك فئات معينة، على سبيل المثال، كبار الرأسماليين في صناعة الأسلحة، أو السياسيين القريبين من هذه الأقسام قد يختارون ذلك لأسباب ضيقة، وقد يكون هذا صحيحاً أيضاً في بعض البلدان الأخرى في أوروبا. لذلك على الرغم من أن غالبية الناس لا يؤيدون ذلك، فقد تصبح أوروبا مرة أخرى شريكاً وثيقاً في الحروب الأكثر تدميراً.
كانت أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين مركزية في أكثر الغزوات والحروب تدميراً في العالم، وكانت الحروب أكثر تدميراً بكثير مما أطلقه أسوأ الغزاة في القرون السابقة، والتي ارتبطت أيضاً بأسوأ أشكال النهب والاستغلال التي امتدت على مدى سنوات طويلة جداً، حيث تمّ القضاء على الغالبية العظمى من السكان الأصليين في قارات بأكملها في الأمريكتين وأستراليا، كما تم إطلاق العنان لواحدة من أكثر تجارة الرقيق وحشية. لقد تحطمت مسيرة التقدم بوقاحة عبر دول شاسعة، بما في ذلك الحضارات القديمة جداً، لإغراقها في الحرب والمجاعة. كما أدى الاندفاع إلى نهب الأراضي البعيدة في نهاية المطاف، وبشكل حتمي، إلى اشتباكات داخلية داخل أوروبا، مما أدى إلى إغراق القارة في حربين عالميتين، وإلحاق دمار ومصائب لا توصف بأقوى دولها، وكذلك على معظم العالم المتبقي.
ولكن حتى أثناء مغادرتها عدة مستعمرات، ألحقت أوروبا دماراً شديداً يمكن تجنّبه بالعديد منها. وفي حين سنوات ما بعد الحرب كُرست بشكل صحيح لإعادة الإعمار، وزيادة التعاون الداخلي والتقدم الاقتصادي، أصبحت العديد من الدول الأوروبية أيضاً راغبة في احتلال الجزء المهيمن من النظام الاستعماري الجديد الذي استمر في استغلال الجنوب العالمي بشكل سيئ في الأمور المتعلقة بالتجارة والديون وأكثر من ذلك بكثير.
استمرت الدول الأوروبية الرائدة في أن تكون جزءاً من غزوات الولايات المتحدة الأمريكية، وحروبها ومشاريع إسقاط الديمقراطية، ولم تفعل شيئاً لمعارضتها. ومن هنا كان لأوروبا دور واضح في تدمير دول مثل العراق وأفغانستان وليبيا. وحتى داخل أوروبا، كان تدمير يوغوسلافيا السابقة قصة حزينة للغاية تم تحريفها كثيراً، وكان لأعضاء الناتو الأوروبيين دور تدميري بارز إلى جانب الولايات المتحدة.
ألم يحن الوقت الآن لأوروبا لمحاولة التخلي عن هذا الماضي، والسعي إلى مستقبل مختلف من خلال دمج فهم مستنير لمصالحها الذاتية، وسلامة ورفاهية شعبها، مع اهتمامات السلام، والعدالة، وحماية البيئة في العالم برمته. من حق ماكرون وأصدقائه أن يطالبوا بمزيد من الاستقلالية الاستراتيجية، ولكن المزيد من الاستقلالية لمتابعة أي مسار؟. من الواضح أن الإجابة يجب أن تكون لاتباع مسار يدمج رفاهية شعوب أوروبا بالسلام والعدالة وحماية البيئة في العالم بأسره.
لا يزال الاتحاد الأوروبي من نواح كثيرة، وحتى بريطانيا، بعيدين عن مثل هذا المسار، ولكن في حال كان في الإمكان إنشاء إجماع داخلي واسع على الأقل داخل أوروبا بشأن هذا الأمر، فسيكون هذا بحدّ ذاته خطوة مهمة إلى الأمام من أجل السلام، والعدالة، وحماية البيئة على المستوى العالمي. وبدلاً من جرّ الولايات المتحدة الأمريكية أوروبا نحو الحرب، يجب أن يكون المستقبل هو أن تدفع أوروبا الولايات المتحدة نحو السلام، وهو الدور الذي يمكن لأوروبا فقط أن تؤديه من خلال علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة، ومن خلال شعوب تلك الدول، وليس فقط من خلال الحكومات، كما يجب أن يشمل ذلك السلام مع روسيا والصين.