أيهما أجدى وأكثر مردودية لوزارة التعليم العالي “الانتقام” من الموفدين.. أم استثمار إمكاناتهم والاستفادة من مواقعهم؟!
البعث الأسبوعية ـ علي عبود
لم يقم أي وزير للتعليم العالي منذ عام 2011 باقتراح تسوية عادلة للموفدين الذين آثروا البقاء في البلدان التي أوفدوا إلى جامعاتها بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها سورية، والتي لا تشجع أي موفد على العودة، في الوقت الذي يهاجر فيه آلاف الكوادر والخبراء وفي مقدمتهم الأطباء إلى الخارج بحثا عن فرص عمل مجزية ماديا ومعنويا.
ومن الملفت أن يكون الشغل الشاغل لوزراء التعليم العالي خلال العقد الماضي إعداد الصكوك القانونية التي تستهدف “الانتقام” من الموفدين مع ذويهم، بدلا من استثمار إمكاناتهم الكبيرة والمهمة جدا في المناصب التي يشغلونها سواء في الجامعات الأجنبية أو المراكز العلمية والاقتصادية التي يعملون فيها منذ سنوات!
والسؤال الذي لم يطرحه أي وزير للتعليم العالي قبل إعداد مشروع صك قانوني لمعالجة مشكلة الموفدين: أيهما أجدى وأكثر مردودية للبلد تنفيذ إجراءات “انتقامية” بحق الموفدين وذويهم.. أم تنفيذ آليات تتيح الاستفادة من إمكاناتهم العلمية لصالح الجامعات الحكومية، ورفد سورية بالقطع الأجنبي؟
وهاهي المهلة التي منحها المرسوم التشريعي رقم /8/ لعام 2022 لتسوية غير قابلة للتنفيذ انتهت في مطلع أيار الجاري، دون عودة الموفدين، وهي فعلياً ليست مهلة بل كانت إنذاراً من وزارة التعليم العالي للموفدين عنوانه: إما أن تعودوا أو سنستمر بالإجراءات “الانتقامية” ضد من كفلكم؟
والسؤال الأكثر أهمية في هذه القضية: لماذا لا تستفيد الحكومة من تجارب دول أخرى مع موفديها مثل الجزائر ومصر والصين، أو تبتكر آليات جديدة تتيح الاستفادة القصوى من إمكاناتهم بدلا أن يتحولوا إلى عبء في حال استجابتهم لإنذارات وزارة التعليم العالي، أي التحاقهم بالجهات التي أوفدتهم لتقاضي أجرا بالكاد يكفيهم لثلاثة أيام؟
تفاؤل أكثر مما يجب
ولو عدنا قليلاً للوراء وتحديداً لجلسة مجلس الوزراء التي عقدت بتاريخ27/4/2021 فإن من يقرأ الخبر لابد أن يتوقف عند الفقرة التالية (ناقش مجلس الوزراء خلال جلسته الأسبوعية اليوم، مشروع صك تشريعي يتضمن تسوية أوضاع الموفدين الذين حصلوا على المؤهل العلمي ولم يعودوا إلى الوطن خلال المدة التي حددها قانون البعثات العلمية بما يسهم في تسهيل عودتهم واستثمار مؤهلاتهم العلمية ورفد الجامعات والمعاهد بالكوادر التدريسية المؤهلة).
ربما من قرأ الخبر لاسيما ذوي الموفدين كان متفائلاً أكثر مما يجب، وتوقع بأن الحكومة قررت أخيراً حلاً جذرياً لمشكلة الموفدين تتضمن عودتهم واستثمار مؤهلاتهم ورفد الجامعات بالكوادر والخبرات، لكن ما حدث العكس تماما فالمرسوم التشريعي رقم 8/ لعام 2022 الصادر في 30/4/2022 والذي انتهى مفعوله مع مطلع شهر أيار الجاري، لم ينص على أي إجراءات تتيح تسهيل عودة الموفدين ولا استثمار مؤهلاتهم العلمية ولا رفد الجامعات والمعاهد بالكوادر التدريسية!
ولو حقق المرسوم الهدف المأمول منه لكانت وزارة التعليم العالي أول من أشاد بنتائجه الإيجابية، بل أننا نجزم بأنها لم تنتظر نتائج مناقضة لتوقعاتها غير المعلنة، فالخيارات التي وضعها المرسوم أمام الموفدين وذويهم غير قابلة للتنفيذ أساسا!
السؤال هنا: هل الاستفادة من مؤهلات الموفدين تكون بمنحهم أجراً لا يكفي لأكثر من ثلاثة أيام، أم بتسوية لا تلزمهم بالعودة، وتتيح لهم إفادة الجامعات السورية بخبراتهم ومن إمكانات الجامعات التي استلموا مناصب فيها، وإرسال تحويلات منتظمة بالقطع الأجنبي إلى ذويهم؟
نصيحة غير ثمينة
ويبدو إن ما دار من منافشات في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 27/4/2021 وما انتهت إليه المناقشات غير المعلنة شيء مختلف تماما بدليل أننا أمام تصريحين مختلفين تماما لوزير التعليم العالي: الأول بتاريخ 27/4/2021 أي بعد المناقشة الأولى لمشروع الصك التشريعي الخاص بالموفدين ، والتصريح الثاني بعد صدور الصك بمرسوم حمل الرقم /8/ في 30/4/2022.
في التصريح الأول قال وزير التعليم العالي التالي:
“المشروع نص على أن كل موفد يرغب بالعودة إلى الجهة التي أوفدته يُسوّى وضعه بشكل كامل ولا يُطالب بأي تعويض مالي، وتسقط جميع القضايا القضائية المرفوعة عليه، أو الذي يرغب بتسوية وضعه من الناحية المالية فقط ، أن يقوم بتسديد المبلغ المطالب به وفق سعر التحويل عندما حُولت إليه الرواتب والمتممات لهذا الراتب، ويتم تسديد المبلغ بشكل مريح بالتقسيط على دفعتين، الدفعة الأولى خلال ستة أشهر والدفعة الثانية خلال عام من تاريخ تسديد الدفعة الأولى.
هذا الصك يشمل 3300 موفد منهم 2500 لصالح الجامعات و800 لصالح وزارات ومؤسسات الدولة الأخرى، وبالتالي تشجيعا لعودة الموفدين إلى وطنهم وبسبب نقص الكوادر في الجامعات تم إعداد هذا الصك التشريعي”.
أما التصريح الثاني لوزير التعليم العالي فكان بعد صدور المرسوم 8 لعام 2022 وجاء فيه:
“تسقط جميع الدعاوى القضائية والمالية عن الموفد فور صدور قرار التسوية، وبالتالي أنصح جميع زملائي الموفدين بالاستفادة من هذا المرسوم والعودة إلى جامعاتهم ومؤسساتهم فهي فرصة ثمينة لتسوية أوضاعهم”.
كما نلاحظ أن المرسوم /8/ لم ينص على أي تسوية مالية كما جاء في التصريح الأول لوزير التعليم، أي أن الموفد أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العودة للعمل بأجر هزيل، أو استمرار وزارة التعليم العالي بملاحقة ذويه أو أقربائه الذين كفلوه أمام القضاء.
وما أطلق عليه وزير التعليم العالي بأنه (فرصة ثمينة للموفدين) لتسوية أوضاعهم، هو فعليا فرصة غير ثمينة، بل هي دعوة تدمير لمستقبل الموفدين، والسؤال: ما هذه الفرصة الثمينة التي تتيحها وزارة التعليم العالي للموفد كي يتخلى عن راتب لا يقل عن 250 يورو شهريا للعمل في الجهة التي سيعود إليها براتب لا يتجاوز 30 يورو؟
من الجنون الإصرار على الإجراءات “الانتقامية” فإن هذه الفرصة غير الثمينة تؤكد إن الإجراءات لن تعيد أي موفد إلى الوطن، وينطبق على إجراءات وزارة التعليم العالي الخاصة بالموفدين منذ عام 2011 ما قاله صاحب النظرية النسبية ألبرت أينشتاين: الجنون هو أن تفعل نفس الشيء، مرة بعد أخرى، وتتوقع نتائج مختلفة!
نعم، وزراء التعليم العالي منذ عام 2011، سواء بمبادرات ذاتية أم بطلب من رئاسة الحكومة، يصرون على تبني إجراءات “انتقامية” من الموفدين الرافضين للعودة من خلال رفع دعاوى ضد ذويهم الذين كفلوهم وكأنّهم متأكدين أن هذه الإجراءات سترغم الموفدين على العودة، وبالتالي فإنه من الجنون تكرار هذه الإجراءات المرة تلو المرة طالما النتيجة واحدة: لا عودة للموفدين!
هذه حال وزارة التعليم العالي، فهي مصرة أن تتعامل مع الموفدين الذين لم يرجعوا إلى الوطن بطريقة واحدة تكررها دون أي نتائج مختلفة عن محاولاتها السابقة، والملفت بل والمستغرب أن الوزارة الوحيدة التي تضم نخبة من العلماء والخبرات في كل المجالات لم تفكر بآليات أخرى تتيح الاستفادة من إمكانات وخبرات الموفدين الذين يشغلون منذ سنوات مناصب مهمة سواء في الجامعات أو المراكز العلمية الأخرى بدلا من الإصرار على تنفيذ إجراءات ضد كفلاء الموفدين أي أهلهم وأقاربهم..أنه فعلا موقف غريب ومريب معا، بل هو الجنون بعينه كما قال أينشتاين!!
الخلاصة:
لقد آن الأوان لتخطط الحكومة لتسوية أوضاع الموفدين جذرياً سواء قبل أم بعد عام 2011 من خلال صكوك تشريعية محورها الإجابة على السؤال: كيف نستفيد من إمكانات وخبرات الموفدين الذين أصبحوا فعليا في عداد المغتربين، وحصل معظمهم على الجنسية الأجنبية؟!
ونجزم أن وزارة التعليم العالي على قناعة تامة بأن غالبية الموفدين، إن لم يكن جميعهم، لا يخططون للعودة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، لأنهم سيتحولون إلى عالة على ذويهم بدلاً من أن يقوموا هم بإعالتهم كما يفعلون حالياً، وبالتالي فهي على قناعة أيضا أن ما من صك تشريعي ولا أي إجراءات سترغمهم بالعودة إلى الوطن، وبالتالي لماذا لا تنتقل الوزارة من فعل الانتقام إلى فعل الاستفادة من الموفدين؟!