مجلة البعث الأسبوعية

في ذكرى سلخ لواء اسكندرون عن سورية: كيف سرق النظام التركي اللواء؟ ضحية تقاسم الغنائم وتقاطع المصالح بين فرنسا الاستعمارية وتركيا العثمانية

البعث الأسبوعية- تغطية وإعداد هيفاء علي

تحّل الذكرى الـ “86” لجريمة سلخ لواء اسكندرون عن الوطن الأم سورية لتعيد إلى الأذهان التاريخ الأسود لتركيا التي ضمت اللواء إليها بشكل تعسفي وأخذته كنوع من الرشوة بموجب اتفاق ثلاثي مع الاحتلالين الفرنسي والبريطاني آنذاك مقابل وقوفها إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وهو ما تحاول اليوم تكراره من خلال دعمها للتنظيمات الإرهابية، ومحاولاتها اليائسة للسيطرة على المنطقة الشمالية مستغلة الحرب الكونية الشرسة التي شنها الغرب وأزلامه وأدواته على سورية.

يقع لواء اسكندرون شمال غرب سورية ويطل على البحر المتوسط ممتداً على مساحة 4800 كلم مربع، يسكنه اليوم أكثر من مليون نسمة ولم تكن تبلغ نسبة الأتراك فيه عام 1920 أكثر من 20 بالمئة، وقد حرره العرب في العام 16 للهجرة من الاحتلال البيزنطي، وأعادوا إليه هويته وعمروا أرضه وحصنوه كخط أول في مواجهة الروم البيزنطيين، وبقي قلعة وثغراً عسكرياً متأهباً في مواجهة محاولات الغزو الخارجي إبان ضعف الدولة العربية الإسلامية المركزية في بغداد.

السياق التاريخي والغزوات التي تعرض لها اللواء

احتله الصليبيون خلال غزوهم للمشرق العربي من عام 1096 حتى عام 1291 إلى أن حرره العرب بعد تحرير القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين عام 1187. وبعد سقوط الدولة الأيوبية غزا العثمانيون المنطقة العربية وضموا اللواء إلى ولاية حلب، وأصابه ما أصاب البلاد العربية نتيجة الاحتلال العثماني من فقر وتخلف، ورغم ذلك لم ينقطع عن عمقه في مصر والشام بل تواصل مع كل الثورات التي قامت ضد العثمانيين من ثورة الأمير فخر الدين المعني الثاني إلى إبراهيم بن محمد علي باشا إلى أن انطلقت الثورة العربية الكبرى عام 1916 فشارك أبناؤه في مقاومة المحتل العثماني وطرده من المشرق العربي.

وقع اللواء بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى ضحية اتفاقية “سايكس بيكو” التي تمت بشكل سري بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 وكان من نصيب الاحتلال الفرنسي فاعترفت الدولة العثمانية بالهزيمة وأقرت بعروبة اللواء في “معاهدة سيفر” في 10 آب عام 1920 التي وقعت مع قوات الحلفاء.

وضعت فرنسا وبريطانيا يديهما على الشرق العربي واستمرتا برسم حدوده وفق المتغيرات في تلك المرحلة، وبعد نشوء الدولة التركية الحديثة عام 1923 وقعت فرنسا معها “اتفاقية لوزان”. و في نفس العام تنازلت بموجبها عن الأقاليم السورية الشمالية فانتقل خط الحدود السورية التركية باتجاه الجنوب وبقيت الأطماع التركية قائمة في اللواء الذي استقل إدارياً وأطلق عليه لواء الإسكندرون حتى صدور قانون التنظيمات الإدارية في العاشر من كانون الثاني عام 1936 فأصبح محافظة سورية كبقية المحافظات وبقيت كلمة لواء هي الغالبة في الاستعمال.

وفي عام 1936 اندلعت مظاهرات ضد فرنسا دامت أربعين يوماً في جميع المدن السورية للمطالبة بالاستقلال، فأذعنت فرنسا وعقدت مع سورية في 9 أيلول من العام ذاته معاهدة تضمن الحرية والاستقلال لسورية بما فيها اللواء ودخولها في عصبة الأمم.
لكن تركيا رفضت إبقاء اللواء ضمن الدولة السورية وطالبت بتحويله إلى دولة مستقلة شأن دولتي سورية ولبنان، وإنشاء اتحاد فيدرالي بينها ورفعت القضية إلى عصبة الأمم فيما خالفت فرنسا صك الانتداب الذي يمنع الدولة المنتدبة من التنازل عن أي جزء من الأراضي المنتدبة عليها.

وفي كانون الأول عام 1936 بحثت عصبة الأمم الطلب التركي الذي زعم أنه يريد فقط حماية حقوق الأتراك الذين يتعرضون للاضطهاد والحفاظ على حريتهم في اللواء فاقترح رئيس مجلس العصبة إرسال ثلاثة مراقبين دوليين وتمت الموافقة على الاقتراح رغم معارضة تركيا له.

وصلت في الشهر ذاته لجنة المراقبين إلى أنطاكية وطافت في مختلف المناطق والنواحي وتعرفت على السكان واجتمعت مع وجهاء الطوائف وزعماء الهيئات السياسية والدينية، واستمعت إلى مطالبهم وفي شهر كانون الثاني من عام 1937 نظم العرب والأرمن في مدن أنطاكية والريحانية واسكندرون وبلدة السويدية مسيرات شعبية حاشدة أمام اللجنة حملوا فيها الأعلام السورية، وطالبوا بالمحافظة على ارتباط اللواء بوطنه الأم سورية. وعادت اللجنة الدولية إلى جنيف بانطباعات أن الأتراك لا يشكلون أكثرية السكان وأن الغالبية العظمى من سكان اللواء بمن فيهم نسبة كبيرة من الأتراك يعارضون ضمه إلى تركيا وأن الأتراك ليسوا مضطهدين من جانب السلطة المحلية.

بعد ذلك، استمرت الاتصالات بين فرنسا وتركيا بوجود لجنة المراقبين الدوليين في اللواء مع بدء التوتر في القارة الأوروبية مع ألمانيا النازية، وأجريتا محادثات ثنائية انتهت في 24 كانون الثاني عام 1937 باتفاق على جعل اللواء منطقة مستقلة ذاتياً في نطاق الوحدة السورية على أن تكون منزوعة السلاح، وقدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس العصبة متضمناً مقترحاتها التي يجب أن يبنى عليها نظام اللواء وقانونه الأساسي فأقره المجلس في جلسة 29 كانون الثاني عام 1937 وعهد إلى لجنة خبراء صياغة النظام والقانون الأساسي.

بعد ذلك، شكلت عصبة الأمم لجنة من ستة خبراء لإعداد نظام عام وقانون اساسي للواء مؤلف من 55 مادة، وقد تم إقرارهما في جلسة 29 أيار 1937، وحدد يوم 29 تشرين الثاني 1937 موعداً لبدء تنفيذهما.  وينص هذا النظام على أن يكون اللواء منطقة مستقلة في أمورها الداخلية وتدار أمورها الخارجية من قبل سورية ويقوم الممثلون الدبلوماسيون والقناصل السوريون في الخارج برعاية مصالحها، بينما تقوم إدارة جمركية موحدة بين سورية واللواء ويكون لهما نظام نقدي واحد وخدمة بريدية موحدة، فيما يكون لمجلس عصبة الأمم سلطة الإشراف على شؤون اللواء عن طريق تعيين مندوب من الجنسية الفرنسية. كما نص القانون المقر من عصبة الأمم أيضاً على تشكيل مجلس نيابي يتألف من أربعين عضواً ينتخبون لمدة أربع سنوات ويجري تسجيل الناخبين في أول انتخابات من قبل لجنة دولية يشكلها مجلس العصبة.

أعلنت تركيا وفرنسا أمام مجلس عصبة الأمم قبولهما بالتسوية الجديدة كحل نهائي لوضع لواء اسكندرون، لكن أطماع تركيا فيه لم تتوقف بينما قام المفوض السامي الفرنسي بإنزال العلم السوري إيذاناً ببدء تطبيق نظام اللواء فقوبل بمظاهرات حاشدة من قبل أبناء اللواء باعتبار أن نص النظام يشير إلى أن اللواء جزء من سورية التي تدير شؤونه الخارجية.

وفي كانون الأول عام 1937 وضع قانون الانتخابات وفق المطالب التركية وبدأت السلطات التركية حملة من الضغوط والتهديد والرشوة والإغراء بالاتفاق مع السلطة الفرنسية التي سمحت لها بإدخال عشرات آلاف الناخبين من تركيا إلى اللواء بعد تزويدهم بهويات مزورة.

وفي نيسان 1938 وصلت اللجنة الدولية التي شكلها مجلس العصبة إلى اللواء لإجراء الانتخابات فيه، وفي أيار عام 1938 حقق العرب في اسكندرون وقرق خان وأنطاكية تفوقاً على الأتراك في عدد الناخبين المسجلين، ومع وصول الأمور إلى هذه المرحلة الحرجة لتركيا تم الإعلان عن اتفاق سري كان قد عقد بين فرنسا وتركيا بجنيف في آذار من نفس العام تعهدت فرنسا بموجبه بضمان أغلبية تركية في مجلس اللواء المقبل وبما أن التعهد لم ينفذ قامت تركيا بحشد قواتها على حدود اللواء وأنذرت فرنسا باحتلاله إن لم تف بتعهداتها. وبسرعة فائقة قامت فرنسا بإجراءات لتنفيذ تعهدها هذا فأعلنته صراحة على لسان روجيه غارو مندوبها في اللواء في اجتماع عقده في دار بلدية أنطاكية لزعماء الطوائف العربية والأرمنية الذين رفضوا طلبه، فقامت فرنسا بإعلان الأحكام العرفية والطلب إلى اللجنة الدولية وقف عمليات تسجيل الناخبين بحجة اضطراب الأمن فاستجابت اللجنة لطلبها واتخذت فرنسا خلال هذه الفترة إجراءات تعسفية عدة تضمن غلبة العنصر التركي.

وفي 9 حزيران عام 1938 استقال المندوب الفرنسي “غورو” من منصبه وغادر المنطقة معلناً لأصدقائه أن ضميره لا يسمح له بتنفيذ سياسة دولته في اللواء فأسندت فرنسا وظيفته إلى الكولونيل “كوله”، وعندما استأنفت اللجنة الدولية أعمال تسجيل الناخبين قامت الميليشيات التركية بتطويق مراكز التسجيل في الأحياء والقرى العربية ومنعت الناخبين من الوصول إليها واعتقلت كل من يحاول ذلك، فاحتجت اللجنة الدولية على هذا الإجراء وأرسلت في 13 حزيران عام 1938 برقية إلى مجلس العصبة أبلغته فيها عن أعمال الضغط التي مارستها السلطة ضد العرب والتي ترمي إلى إرغامهم على التسجيل في القائمة التركية أو التخلي عنه.

وعلى أثر موقف اللجنة الذي يفضح تآمر فرنسا وتركيا على حرية الانتخابات وتزويرها لمصلحة الأتراك أعلنت فرنسا وتركيا قطع علاقاتهما مع اللجنة وطلبتا من مجلس العصبة استدعاءها، لكن اللجنة استمرت في أعمال تسجيل الناخبين ما دفع السلطة الى توقيف مخاتير القرى وممثلي العرب لدى مكاتب التسجيل، كما أوقفت الزعماء والشباب العرب وملأت السجون بالمعتقلين، فاضطرت اللجنة الدولية إلى إغلاق مراكز التسجيل وأرسلت تقريراً مفصلاً إلى السكرتير العام لعصبة الأمم بالانتهاكات الفرنسية والتركية.

وفي 23 حزيران عام 1938 اتفقت فرنسا وتركيا على إدخال 2500 جندي تركي إلى اللواء بحجة المشاركة في حفظ الأمن مع القوات الفرنسية. وفي 29 حزيران عام 1938 غادرت اللجنة الدولية اللواء إلى لبنان وأعدت تقريرها النهائي في 150 صفحة ذكرت فيه جميع الأعمال التي قامت بها والنتائج التي حققتها في التسجيل والتي أظهرت تفوق العرب عددياً على الأتراك، كما ذكرت أعمال الضغط والإرهاب التي مارستها السلطة الفرنسية ضد العرب ورفعت تقريرها إلى السكرتير العام لعصبة الأمم في 30 تموز 1938.

وفي الشهر ذاته أخذ شبح الحرب يخيم على أوروبا، فوقعت فرنسا وتركيا معاهدة صداقة بينهما تضمنت تعهد الطرفين بأن لا يدخل أحدهما في حلف ضد الآخر، وأن يعترفا باستقلال اللواء ويطبقا النظام الموضوع له من قبل عصبة الأمم على أن يضمنا تفوق العنصر التركي فيه. ثم قاما في 18 تموز عام 1938 بتشكيل لجنة مشتركة للإشراف على الانتخابات بعد طرد اللجنة الدولية حيث أعادت هذه اللجنة النظر في الجداول الانتخابية وألغت قيود الآلاف من الناخبين العرب ودعت إلى انتخابات قاطعها العرب والأرمن ففازت القوائم التركية بالتزكية.

وفي الثاني من أيلول عام 1938 عقد مجلس اللواء المزور جلسته الأولى وانتخب رئيساً وشكل وزارة من الأتراك لتبدأ مرحلة تتريك طالت كل شيء في اللواء، بدءاً من اسمه الذي أصبح “هاتاي” وليس انتهاء بتهجير العرب والعبث بهويته الديموغرافية وإلغاء التعليم باللغة العربية وإلغاء كل المعاملات الحكومية بها وتبني الليرة التركية كعملة رسمية بما يخالف النظام الذي وضعته عصبة الأمم.

واستغلت تركيا اندلاع الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول عام 1939 والوضع القائم في أوروبا وحاجة الحلفاء لضمها إليهم أو إبقائها على الحياد وخاصة أنها بعد معاهدة “مونترو” التي عقدت في 20 تموز 1939 أصبحت تسيطر على المضائق في زمن الحرب فأعلنت ضم اللواء نهائياً إليها.

ويبقى اللواء بعد سلخه عن سورية من وجهة النظر الدولية منطقة مستقلة تتبع سورية في شؤونها الخارجية وترتبط معها في العملة والجمارك والبريد. ولم تعترف عصبة الأمم التي قامت على أنقاضها منظمة الأمم المتحدة الحالية بكل الإجراءات والتغييرات التي أحدثتها فرنسا وتركيا باللواء والمخالفة للقوانين والأنظمة التي وضعتها.

وتعتبر اسكندرون وأنطاكية أهم مدن اللواء حيث تقع اسكندرون في رأس خليج اسكندرون على البحر المتوسط، وهي مركز تجاري ومنتجع سياحي هام بناها الاسكندر الأكبر عام 333 قبل الميلاد وكانت قديماً مركزاً للتجارة بين الشرق والغرب، واستخدمت منفذاً بحرياً لسكان مدينة حلب والشمال السوري. أما أنطاكية، وهي عاصمة اللواء، الواقعة عند الطرف الجنوبي لسهل العمق، فهي مدينة عريقة أيضاً بناها القائد سلوقوس الأول نيكاتور خليفة الإسكندر الكبير في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد تخليداً لذكرى والده أنطيوخس، وتبعد عن شاطئ البحر المتوسط نحو 25 كم. وهناك أيضاً مدن أرسوز والريحانية والسويدية، وجبال الأمانوس والأقرع وجبل موسى والنفاخ، جميعها تفوح منها عروبة وهوية سورية.

جرائم واعتداءات نظام رجب طيب أردوغان الداعم للإرهاب وجرائمه بحق السوريين خلال السنوات الأخيرة لا تعد ولا تحصى وكذلك جرائم أجداده الذين سرقوا حقوق السوريين في لواء اسكندرون.

واليوم كما كل يوم، ورغم كل ما قامت وتقوم به السلطات التركية لفرض سياسات التمييز الثقافي واللغوي والعرقي ضد السكان السوريين من أبناء اللواء واضطهادهم والتضييق عليهم يصر السوريون أبناء اللواء السليب على ارتباطهم بوطنهم الأم سورية وانتمائهم له، ويؤكدون في كل مناسبة أن لواء اسكندرون سيبقى عربياً سورياً شاء من شاء وأبى من أبى فالحق السوري في اللواء باق حيث لا تزال ذكراه خالدة في عقول السوريين ووجدانهم كأرض عربية سورية محتلة لا بد أن تعود إلى أصحابها مهما طال الزمن.