جولة الانتخابات الثانية والمستقبل التركي
ريا خوري
لم تكن الشعارات، التي رُفعت في حملة تجديد ولاية رجب طيب أردوغان الانتخابية الرئاسية التركية، جديدة. فقد تمّ الإعلان مراراً وأمام الملأ عن مستقبل تركيا الامبراطوري العثماني بقالب جديد. هذا الشعار لم يكن شعاراً جديداً، فقد طرحه هو نفسه في بداية القرن الحادي والعشرين، وتردّد صداه في جنبات الحياة السياسية والأكاديمية داخل تركيا وخارجها قبل أن تتآكل جميع رهاناته وحساباته وطموحاته.
في السنوات الأولى من تجربة أردوغان السياسية، بدت مدينة إسطنبول مدينة عصرية منفتحة على عالمها الذي بنته عبر سنوات طوال، لا تتنكر لتاريخها وما فيها وما هو عليها، وتتحدث عن المزاوجة بين إرث العلمانية والثقافة الدينية ولديها طموح وآمال واسعة في بناء قوة اقتصادية لها دور كبير، وتحسين مستويات الحياة اليومية لسكانها.
تزاوجت الأوضاع والأحوال الداخلية الملائمة، والظروف الإقليمية المتغيّرة في بناء قوة دفع أياً كانت هذه القوة للقيام بدور تركي جديد، غير أنّ الرهانات والحسابات على “العثمانية الجديدة” سرعان ما تقوّضت وتزعزعت، ودخلت تركيا في حزام من المشكلات والقضايا والأزمات مع دول عربية عديدة ومؤثرة ولها دور كبير في المنطقة، كأنّها انتقلت فجأة من شعار “صفر مشكلات” إلى “كل المشكلات”، وباتت تركيا توصم بأنها أسّ الصراعات والنزاعات في العالم العربي، وهي من تغذي وتدعم الإرهاب لمصلحة أجنداتها.
تركيا تقف الآن أمام المرآة، وأمام العالم من جديد، تراجع مواقفها وتنظر في مستقبلها في محاولة منها لتخطي ماضيها، فالانتخابات الرئاسية الجارية في تركيا اليوم كاشفة لحقائق الموقف التركي في إقليم يتغيّر بشكل استراتيجي، والسؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه بقوة بأي قدر وفي أي اتجاه ستسير الأمور؟.
قبل الانتخابات الرئاسية مباشرةً تبدّت استدارة استراتيجية تعمل على توفيق الأوضاع والأهداف والمصالح وفق الحسابات المتغيّرة، بتخفيف التوتر مع جمهورية مصر العربية إلى أقصى حدّ ممكن، ومدّ خيوط التعاون الاقتصادي مع العديد من دول الخليج العربي بقدر ما هو متاح. بتوقيت متزامن جرت استدارة استراتيجية موازية من إيران في المنطقة، حيث مالت إلى التهدئة، وضبط إيقاع العمل السياسي، وفتح صفحة جديدة مع دول الخليج العربي ومصر.
لقد كان للمصالحة السعودية الإيرانية دور كبير في تغيير الكثير من المعادلات السياسية، وكان لافتاً دخول مصر على خط التهدئة والمصالحة مع إيران بعد أكثر من أربعة عقود من القطيعة الدبلوماسية، وأن تلعب القيادة العُمانية والقيادة العراقية الدور نفسه في سيناريو المصالحة الإيرانية- المصرية المتوقعة قريباً.
معظم المراقبين والمحلّلين يتوقعون من تركيا أن تأخذ بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة خطوات واقعية في معادلات الإقليم الذي يشهد تحالفات دولية استراتيجية، مثل خفض التوترات مع مصر بأزمتي ليبيا وغاز البحر الأبيض المتوسط، وانفتاح على سورية يساعد على إنهاء الأزمة المتفاقمة، أو تخفيف وطأتها على الأقل.
ما حصل في الانتخابات الأخيرة والمنافسة الحادة بين كمال كليشدار أوغلو وأردوغان جعل جميع الخيوط العريضة متقاربة بقوة الحقائق والمصالح التركية،على الرغم من حالة السباق الرئاسي المحموم. وإذا فاز أردوغان في الجولة القادمة من الانتخابات، فإنه سوف يعمل على تأكيد ما يمكن أن نطلق عليه “تحالف الضرورة” في الأزمة السورية الذي يجمع روسيا وإيران مع تركيا. أما المرشح الآخر في الانتخابات الرئاسية كمال كليشدار أوغلو، قد يحدث بعض التغيير التكتيكي دون تعديل جوهري على المعادلة السابقة.
بعد مضي قرن كامل على تأسيس الجمهورية التركية، وإنهاء الخلافة العثمانية، نجد أنفسنا أمام العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة مجدداً على مستقبل تركيا، بحيث تصعب أي عودة إلى خيار “العثمانية الجديدة” بلونها الإخواني، كما أنه من الصعب عودة أخرى إلى علمانية “مصطفى كمال أتاتورك” التي تنكر على تركيا إرثها الديني.
بمعنى أن هناك شروخاً في الهوية أعمق مما هو بادٍ على السطح، فتركيا ممزقة من الداخل وشروطها مغطاة بقشة، وهناك أزمة اقتصادية حادّة تلقي بظلالها الكثيفة على المستقبل، بالإضافة لتراجع الليرة التركية، وغلاء الأسعار، وارتفاع نسب التضخم، والفلتان الأمني. وأمام هذا الانقسام المجتمعي أفقياً وعمودياً، وأمام شروخ في الهوية، فإن المستقبل التركي يبدو غامضاً وملتبساً!.