قارئ الجثث
سلوى عباس
لا أدري لماذا أخذني عنوان هذا الكتاب لمؤلفه سيدني سميث إلى حالة وجدانية تحكي تجربته مع الموت عبر دراسته للطب والإحساس الذي كان يعيشه مع كلّ جثة يتمّ الشرح عليها من خلال تشريحها، لكنني عندما قرأت الكتاب وجدت الفكرة مختلفة عما ذهبت إليه مخيلتي، فموضوع الكتاب يتحدث عن مذكرات المؤلف كطبيب شرعي يوثق فيها الفترة التي عاشها في مصر منذ عام 1917 إلى نهاية 1927، فهو أحد مؤسّسي مصلحة الطب الشرعي في مصر في العام 1927.
كتاب “قارئ الجثث” الصادر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية، من ترجمة مصطفى عبيد، ورغم أنه يتناول جرائم القتل والانتحار، إلا أن قراءته ممتعة لأنه يتحدث عن الحياة وليس عن الموت، حيث يعيد الطبيب الشرعي إحياء تفاصيل أي جريمة يبحث في ملابساتها معتمداً على بقايا الأشياء والأجساد، كما أنه يعيد إحياء الأدلة المطموسة، ويمكنه أن يحدّد بدقة تفصيلات غريبة عن عمر الجثة، ونوعها إن كانت ذكراً أم أنثى، وزمن وقوع الجريمة، حتى أنه يقدّم وصفاً تقريباً لكيفية وقوع الجريمة، وبالتالي هذه الشروحات والتفصيلات توصل لمعرفة الجاني وكشف ملابسات الجريمة، كما حدث في قضية “ريا وسكينة” وغيرها الكثير من القضايا المرعبة التي تمكن من فك غموضها، إذ يحكي بشكل تفصيلي كيف استطاع أن يتعرّف على الجثث، وكيف ساهم الطب الشرعي في فك غموض الجرائم التي عاينها.
في مقدّمة الكتاب يتحدث المترجم مصطفى عبيد عن دافعه لترجمة هذه المذكرات والتساؤلات التي دارت بذهنه وكثير من الأمور التي تحتمل الرأي والرأي الآخر والتعددية، مؤكداً “أنه يستخدم قالب الرواية في الترجمة لكي يجعل من القارئ شريكاً في وضع التصور أو ترجيح الرأي”، ونوّه بأنه شخص محب للتاريخ ومفتون به ومنجذب إليه، ويوضح أن سبب ذلك باعتقاده يعود إلى فكرة أن التاريخ يكرّر نفسه ونحن لا نعتبر ولا نتعلم من دروسه، ويضيف: “لعقود طويلة بعد ثورة 23 تموز كنا ننظر للآخر نظرة تحمل الكثير من الاتهامات المسبقة، وهذا أثر بشكل كبير على البحث العلمي وعلى الحقائق والموضوعية في الكثير من تصوراتنا لأمور شتى، وقد تساءلت كثيراً هل خطاب الآخر وتصوراته هو خطاب عدائي؟ ووجدت أن الانتصار للمهنية والموضوعية أعلى بكثير”.
وفي تفاصيل الكتاب، يسرد سميث تفاصيل رحلته مع أسرته منذ ولد في الرابع من آب عام 1884 في ركسبورغ، ووصف البلاد في إنكلترا، حتى دخوله كلية الطب في أدنبرغ ودراسته والأساتذة الكبار الذين قابلهم، وكيف تفوّق في دراسته وحصل على عمل جراح عيون، لكنه عمل مساعداً لعميد الكلية الدكتور هارفي ليتل جون الذي كان يترأس قسم الطب الشرعي، فتقدم فيه، ويتحدث عن طرائف العمل وكيف كان كونان دويل مؤلف قصص شارلوك هولمز يعمل في الطب، وانتقل منه إلى التأليف الخيالي.
جرائم عدة ساهم سيدني سميث في كشف مرتكبيها قبل الوصول إلى مصر، مثل جريمة حدثت في خليج هيبتون عام 1913 حيث عثر على جثتين، وشرح كيفية التعامل مع حيثيات الجريمة بدءاً من الملابس وتحلل الجثث والأعمار، وكانت الجثتان لطفلين وتمّ الوصول إلى الجاني، ثم يتحدث عن وصوله إلى مصر حيث أسّس الطب الشرعي وأقام المعامل وأشعة إكس والتصوير الفوتوغرافي وغير ذلك. ومن أبرز القضايا التي أوردها في الكتاب أنه بعد عودته إلى انكلترا أورد حادثة الصيادين اللذين اصطادا سمكة قرش عرضاها في مسبح للجمهور، وفي لحظة هياج غير متوقعة لفظ القرش ما في معدته وبينها ذراع كامل لشخص، الأمر الذي أفزع الناس، فبيّن سميث عبر دراسته لهذه الحالة كيف لم يتمّ هضم الذراع، وكيف كان واضحاً أنها ظلت في معدته أسبوعاً على الأقل، وكيف أن الوشم المرسوم عليها يظهر أنه لرجلين يتلاكمان وكان سبباً في البحث عن صاحبها والوصول إلى اسمه، والبحث عن بقايا جسمه في الشواطئ وأعماق البحر. إنها حكاية يلعب فيها القدر دوراً كبيراً وتؤكد أن القدر مهما بدا غائباً سيظهر بالحقيقة، ويتمّ الوصول إلى القاتل.
كتاب “قارئ الجثث” يتحدث عن حكايات وقصص قد تكون بعيدة عن أذهاننا، وقد لا نفكر للحظة كيف يمكن أن تتحول قضايا الطب الشرعي إلى مادة أدبية نستمتع بقراءتها!.