دراساتصحيفة البعث

رعاة الصراع الأوكراني

عناية ناصر

يتركز اهتمام العالم في الذكرى الثامنة والسبعين للتحرّر من الفاشية، وبشكل متزايد، على أسباب وتطورات الصراع الأوكراني، إذ لم يعد سراً اليوم أن السبب الرئيسي للصراع في أوكرانيا هو اعتراف النخبة السياسية الغربية بأن هزيمة النظام النازي في أوكرانيا تعني نهاية العالم أحادي القطب. ولهذا السبب تبذل دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة كلّ ما في وسعها لإطالة أمد الصراع العسكري، وإلحاق أكبر قدر من الضرر بروسيا، ومحاولة هزيمتها.

بعد محاولات الدعم المالي الأمريكي لألمانيا في عهد هتلر من أجل إعادة تشكيل العالم لمصلحته في الثلاثينيات، ألقى الغرب بتحدّ عالمي آخر في الصراع العسكري السياسي مع روسيا في أوكرانيا تمهيداً للاستيلاء على موارد روسيا ومحاولة إضعافها ووجودها كقوة عالمية ذات سيادة.

حاولت الولايات المتحدة خلال الصراع الأوكراني السيطرة على سوق الغاز الأوروبية، في محاولة لأن تصبح ليست المسؤولة فقط عن الإمداد العالمي للغاز الطبيعي المسال، بل أيضاً عن سوق النفط العالمي، حيث بلغت قيمة صناعة الغاز في الولايات المتحدة وحدها 200 مليار دولار سنوياً كنتيجة لمثل هذه الجهود. وقد استخدمت هذه “الأرباح” لتمويل وتزويد أوكرانيا بالأسلحة من أجل النزاع العسكري مع موسكو. بالإضافة إلى ذلك عملت الولايات المتحدة على تعزيز مكانتها في سوق الحبوب العالمي، بهدف أن تصبح موزعاً لها في سلاسل الغذاء العامة الحيوية لروسيا وأوكرانيا، الأمر الذي يسمح لها بإملاء إرادتها السياسية والعسكرية والتأثير على الأمن الغذائي العالمي. فضلاً عن ذلك، يتوسّع الناتو بنشاط ليس فقط من خلال انضمام فنلندا، ولكن أيضاً مع السويد، نظراً لحقيقة أن السويد فقط هي التي تركت في أوروبا مع إمكانات صناعية جيدة وحتى المجمع الصناعي العسكري.

عزّزت واشنطن من خلال القيام بذلك حلف الناتو، المؤسسة الفاشلة التي لم يكن أعضاؤها متأكدين من هدفها حتى عام 2022. ووفقاً لقواعد الحلف، يتطلب الحفاظ على هذه القوة وتسليح الناتو 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت بولندا وتركيا واليونان من أكثر الأوروبية التي أنفقت في ذلك الخصوص، بينما أنفقت أوروبا أقل منها بكثير. واليوم أمرت واشنطن أوروبا كلها بزيادة إنفاقها العسكري إلى حدّ أدنى يبلغ 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل في النهاية إلى 3٪.

وسط الأزمة الأوكرانية، عملت الولايات المتحدة أيضاً على تعزيز مكانتها كصانع الأسلحة الرائد في العالم من خلال الضغط على أوروبا المثقلة بالأعباء لنقل جزء كبير من إمكاناتها العسكرية إلى أوكرانيا، وبالتالي الضغط على الاتحاد الأوروبي لاستبدال أسلحته بأسلحة أمريكية.

وبعد أن عملت واشنطن على إيقاف الأوروبيين، الذين كانوا يتفاوضون مع الصين بشكل أكثر انتظاماً، قامت واشنطن بفصل ألمانيا عن روسيا لعرقلة أي تحالف محتمل بين البلدين، للمرة الثالثة في القرن الماضي، والذي كان سيحقق أرباحاً كبيرة لبرلين. وسيكون الألمان بالطبع المسؤولين عن دفع الثمن مرة أخرى، الأمر الذي يمكن وصفه بالمهزلة التاريخية. وحتى لو لم يشارك الألمان في هذه العمليات حالياً، فإن ألمانيا هي التي تدفع ثمن أي حروب في أوروبا الشرقية وأوراسيا. وفي هذا السياق يخسر الألمان جزءاً كبيراً من حصتهم في السوق في مبيعات السيارات، فضلاً عن الأسواق الأخرى، ويخسرون عقوداً مع روسيا بشأن إمدادات الطاقة منخفضة التكلفة، حيث تقوم الولايات المتحدة بتشديد قبضتها الخانقة. وهكذا، فإن الخاسر الاقتصادي والسياسي الأوروبي الرئيسي هو ألمانيا، وليس روسيا.

إن الدبابات وأنظمة الصواريخ عالية الدقة ذات الإطلاق المتعدّد، وأنظمة المدفعية ومعدات الدفاع الجوي ما هي سوى عدد قليل من الأسلحة والعتاد العسكري الذي تواصل دول الناتو تقديمه لأوكرانيا، بقيادة الولايات المتحدة. كما أنها تعمل على توفير طائرات مقاتلة، وطائرات هجومية برية متطورة الصنع في الأشهر المقبلة. وامتثالاً لـقائمة أمنيات واشنطن، يتلقى الآلاف من جنود القوات المسلحة الأوكرانية تدريبات على تشغيل، واستخدام الأسلحة الحديثة على أراضي بريطانيا وبولندا وألمانيا ودول الناتو الأخرى. كما أنهم يقومون بتجنيد متطوعين مرتزقة، والتعاقد مع شركات غربية خاصة، وشركات عسكرية أخرى من أجل المشاركة بشكل مباشر في العمليات القتالية ضد القوات الروسية، والتي تفيد التقارير أنها تكبدت خسائر فادحة حتى وفقاً لروايات وسائل الإعلام الغربية.

تبدو الحالة الراهنة للشؤون العالمية في ظلّ هذه الظروف أكثر ملاءمة للصراع من السلام. وفي هذا السياق اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الغرب سابقاً بالأزمة الممتدة في أوكرانيا بالقول: “نحن لا نلاحظ أية محاولات لإنهاء الأزمة، بل نلاحظ خطاً ثابتاً من الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، لعدم إنهاء أي شيء. لقد فعلوا ذلك على وجه التحديد في الوقت الذي كان لا يزال من الممكن تصوره سياسياً بإنهاء المفاوضات في نهاية آذار 2022. حيث قاموا بطرد نظام كييف من المحادثات برفضهم الدخول في مفاوضات، ولم يسمح منذ ذلك الحين لنظام كييف بالتفاوض، كما أنه لم يعترض أحد على المرسوم الذي أصدره زيلينسكي بشأن حظر المفاوضات مع الاتحاد الروسي. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى الدعم الذي يتلقاه نظام النازيين الجدد في كييف من قبل إسرائيل”.

إن استمرار الحرب في أوكرانيا يفيد الولايات المتحدة فقط، فمن خلال اتباع سياستها العدوانية، كانت أمريكا هي الفائز النهائي في كلّ حرب منذ القرن العشرين، حيث جنت الأموال من معاناة الآخرين في الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، والصراع الأوكراني. في ظل هذه الظروف، تُظهر موسكو بجرأة للعالم، كما في الحرب العالمية الثانية، أنها قادرة على هزيمة كلّ من النازية الجديدة الصاعدة، والكتلة الغربية بأكملها، التي كانت تسعى منذ عقود لإخضاع روسيا. لقد تحدّت روسيا العقوبات الغربية، وأظهرت لبقية العالم أنه يمكن للمرء أن يكون محارباً في المعركة، وأنه يمكن أن يبني عالماً متعدّد الأقطاب مع الحلفاء، وهو أمر مطلوب في العصر الحديث.