ثقافةصحيفة البعث

“الثّقافة.. مفهوماً ومنظومةً” تكسر رتابة المحاضرات في مجمع اللغة

نجوى صليبه 

كسرت محاضرة الدّكتور معن النّقري حول الثّقافة ـ مفهوماً ومنظومةً ـ رتابة المحاضرات التي يقيمها مجمع اللغة العربية باستمرار، فمنذ البداية، أوضح النّقري أنّه درج على التّحدّث بالعامية في محاضراته السّابقة، ولاسيّما تلك التي كان يلقيها ضمن نشاطات الجمعية العلمية الكونية في المركز الثّقافي العربي بـ “أبو رمانة”، وذلك لأنّه وجد أنّ الحضور يتفاعل معها أكثر، يقول: أمّا وأنا موجود، اليوم، في مجمع اللغة فسأحرص على التّحدّث باللغة العربية الفصحى.. وهذا ما أثلج قلب الدّكتور محمود السّيد رئيس مجمع اللغة العربية، مبيّناً: إنّك تظلم نفسك بالتّحدّث بالعامية.

وأمّا بخصوص موضوع المحاضرة، وعلى الرّغم من كثرة الدّراسات والأبحاث، فهناك الكثير ليقال حول الثّقافة وتعريفها ومجالاتها وأصولها، يبيّن النّقري: الموضوع مهمّ وراهن وملحّ، ولم يعد هناك علم أو معرفة أو ممارسة لا تستخدم فيه المنظومات ومنهجياتها وعلومها، مضيفاً: الثّقافة مفهوم سهل ممتنع، واضح وبسيط للوهلة الأولى وشديد التّعقيد ومتعدّد الدّلالات عند الغوص في تأويله وقراءاته وتعاريفه. ويمكن القول بوجود مستويات في هذا المجال، فلدينا مستوى شعبي عام وآخر أدبي وراقٍ ومتخصّص، وثمّة البعد التّاريخي للدّلالات، فالثّقافة في لغتنا القديمة تختلف دلالياً عن معانيها الحالية في الأغلب، ولا شكّ في أنّ المعنى العلمي والاختصاصي للثّقافة يختلف عن الشّعبي العادي المتداول، كما يجب لفت الانتباه إلى أنّ المعنى الشّعبي واللغوي العادي في العربية الحديثة انسلخ تقريباً عن المعنى الأصلي في العربية الكلاسيكية القديمة وابتعد عنه كثيراً، والميزة اللغوية الأخرى المهمة في عربيتنا المعاصرة هي غلبة استخدام مفهوم الثّقافة على السليقة تقريباً بالمعنى المثالي الرّوحي المعرفي وغير المادّي التّجسيدي الملموس، وهذا مختلف عن وضع أكثر اللغات الأوروبية المعاصرة التي تقارب كثيراً بين الجانبين المادّي والرّوحي.

ويتابع النّقري: لدينا فسحة للمقارنة بين ثقافة “ثقف” في العربية الكلاسيكية التّقليدية واللاتينينة العتيقة، وفسحة أخرى لمقارنة دلالاتنا الحالية للثّقافة مع دلالات “كولتورا” اللاتينية ومشتقاتها المعاصرة الأوروبية، والثّقافة كمفهوم مكوّن عضوي أساس في القواميس والمعاجم والموسوعات الفكرية والفلسفية، وقد استعرضت عدداً لا بأس به على مدى عقد كامل، ووجدت تطابقاً لافتاً سواء في إرجاع المفهوم إلى اللغة اللاتينية “كولتورا”، لكن القاموس أو المعجم الفكري الفلسفي الوحيد الذي أعطى الثّقافة دلالات أوسع وأكثر أريحية وانشراحاً هو “القاموس ـ المعجم الفلسفي الموسوعي”، حيث نجد: المعالجة والحرث والتّربية والتّعليم والإنماء والتّنمية والقراءة، وعلى العموم تفهم القواميس والمعاجم والمرجعيات الفلسفية الفكرية مفهوم الثّقافة بتشابه وتقارب كبيرين، أمّا المرجعيات الموسوعية فلها خصائصها وحساباتها الأخرى المغايرة، فهي أميل إلى الخصوصية والخاصّة، موضّحاً: في عالم الاجتهادات والقراءات الحرّة والمذاهب والتّيارات الفلسفية الفكرية الواسع نرى عجباً من القراءات والتّأويلات والتأمّل في سائر الاتّجاهات المتسايرة والمتضاربة على السّواء، لذا بات من المتّفق عليه أنّ مفهوم الثّقافة بلا تعريف متّفق عليه ولا قطع في الفهم أو في طرائق الفهم.

وفي مفهوم المنظومية، يقول النّقري: لو أخذنا أي قاموس مبسّط يشرح كلمات لغة أجنبية عالمية كالإنكليزية، ونظرنا إلى معنى كلمة “نظام” أو “منظومة” سنجد ثلاث دلالات، الأولى: مجموعة من الأجزاء التي تعمل معاً في علاقة مضبوطة، والثّانية: شبكة مرتّبة من الأفكار، وأمّا الثّالثة فهي التّرتيب والنّظام، والحقيقة أنّ هذه الدّلالات لا تختلف مبدئياً عن تعريف القواميس والمرجعيات المتخصّصة فكرياً في هذا المجال، والتي تتّفق على المعنى المركزي لهذه الكلمة، مبيّناً أن الثّقافة والمنظومات موضوع بقي عصيّاً على الانتباه والاهتمامات العربية، وكان لابدّ من ملء الفراغ، وفعلت ذلك بالحديث عن “الثّقافة والمنظومات في تجربتنا المبكّرة” بدءاً من السّتينيات مروراً بالثّمانينيات وحتّى اللحظة، أمّا صلة الثّقافة بالمنظومات وعبر الاختصاصية التّركيبية التّكاملية جميعاً ومعاً، فاستحقّت دراسة أخرى شاملة فترةً زمنيةً غير قصيرة، امتدّت عقوداً طويلةً منذ السّتينيات، وفي تعريف بانشغالاتي بداية الثّمانينيات بمشكلات العصر الكبرى “الكوكبية ـ الغلوبالية” لسنوات عديدة، اضطررت لإعادة تكريم الثّقافة ضمن مشكلات عصرنا بسبب إغفالها المريب والمخيف في منظومة هذه المشكلات تصنيفاً ومضموناً، بل وزدت في التّكريم بطرح مفاهيم ورؤى تدعم احتضان الثّقافة: النّظام الثّقافي العالمي الجديد، وإعادة بناء العلاقات الثّقافية الدّولية على أسس عادلة، ثمّ العولمة الثّقافية والمنظور المنظومي للثّقافة، والموشور الكوكبي لها ولمقاربتها وعددها مع زميلاتها مشكلة مركّبة عبر اختصاصية منظومية، وقادني هذا إلى ضرورة تأسيس وإعادة تأصيل وطرح مفهوم الثّقافة ودلالاتها عندنا في لغتنا وثقافتنا بالمقارنة مع الآخرين.

ويوضح النّقري: لدى المثقّف العربي والسّوري ميل متميّز إلى موضوعات الأدب والأدب المقارن والعلم المقارن، وثمّة فراغ في هذا المجال أيضاً، ونحن بحاجة ماسّة لملء وإرواء العطش المعرفي إلى محور كهذا في صلته بالمنظوميات في عصرنا، فالأدب والثّقافة والفكر عربياً بحاجة ماسّة إلى المنهجيات المنظومية، ونحن لا نزال بعيدين عن الطّرائق والمقاربات المنظومية التي اجتاحت العالم وما تزال.

موضوع مهمّ وتفاصيل كثيرة بحاجة لوقت أطول من الوقت المحّدد الذي حال دون الوقوف عند كثير من النّقاط، فقد أبدى الدّكتور جورج جبّور إعجابه بما قدّم من معلومات قد تصعب على الأشخاص العاديين، مبيناً أنّ الموضوع كبير ومهمّ وهناك تفاصيل كثيرة ودقيقة بحاجة لوقت أطول، أمّا الدّكتور وهب رومية فقد توقّع سماع  تفاصيل أكثر، يوضح: من حسن الحظّ أنّ المحاضرة مكتوبة لكي يتسنى لنا قراءتها بدقّة، فالموضوع بحاجة لوقت أكثر، لكن أودّ أن أبيّن ما كنت أتصوّر سماعه، فقد تصوّرت أن أسمع تعريفاً، لأنّ المصطلح كأي مصطلح تطوّر عبر العصور، وكنت أتوقّع أن أسمع عن طبيعة الثّقافة التّراكمية وخصائص الثّقافة، ولاسيّما أنّ مفهوم الثّقافة، اليوم، أصبح ملوثاّ، وأصبحنا نتحدث عن ثقافة النّفاق وثقافة الغش وثقافة الكذب والرشوة.

آراء استقبلها الدّكتور النّقري برحابة صدر وردّ عليها ـ كما قدّم محاضرته ـ بمعلومات وأمثلة تؤكّد صحّة بحثه.