أكذوبة “الأسعار تخضع للعرض والطلب”!!
علي عبود
لا يملّ التجار، ولا حتى أصحاب البقاليات والبسطات التي تحتلّ الأرصفة، من تكرار معزوفة “إن ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية سببها تذبذب سعر الصرف”! وهذه الذريعة توحي وكأنّ التجار الذين يزودون المولات والسوبر ماركات والدكاكين الصغيرة، وحتى بسطات الأرصفة، بالسلع التي يستوردونها، لا علاقة لهم البتّة بتذبذب سعر الصرف!
ولا يملّ التجار أيضاً من تكرار معزوفة أن الأسعار “تخضع للعرض والطلب”، وكأنّ المنافسة هي التي تحكم انسياب السلع في الأسواق وتفرض الأسعار الحقيقية أو الواقعية التي تُلزمهم بالبيع بهامش ربح بسيط.
السؤال الذي تتعمّد الجهات الحكومية عدم الإجابة عليه بشفافية: هل المنافسة متاحة في الأسواق بما يتيح تطبيق مقولة “العرض والطلب”، أم إننا أمام أكذوبة يروّجها التجار ولا تنفيها الوزارات المعنية كالاقتصاد والتجارة الداخلية والصناعة؟
وأضاف التجار سبباً جديداً لرفع الأسعار، فزعموا أن “المنصة” تؤخر تحرير البضاعة وتعرقل وصولها إلى الأسواق عدة أشهر في ظل تقلبات سعر الصرف.. فهل هذا الاتهام صحيح؟
لو أن التجار يستوردون السلع والمواد حسب حاجة الأسواق، وليس لديهم مخازين تكفي لعدة سنوات، حسب اعتراف أحد أعضاء غرفة تجارة دمشق، لكان اتهام “المنصة” برفع الأسعار صحيحاً 100%، لكن سواء بقيت “المنصة” أم ألغتها الحكومة، فلدى التجار حرفية عالية باختلاق المبررات لعدم تخفيض أي سلعة رفعوا أسعارها سابقاً، بدليل عندما استقر سعر الصرف لأكثر من عام لم تنخفض سعر أي سلعة، و”تفنّن” التجار حينها بالحديث عن “التكاليف غير المنظورة”، وبارتفاع تكاليف الشحن والرسوم.. إلخ، كي تبقى الأسعار محلقة عالياً أكثر فأكثر!
وها هو عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق ياسر اكريم يكشف “أن المواد والسلع متوفرة لدى التجار، ولا نقص فيها، لكن الارتفاعات في الأسواق مبنية على وجود عوامل هي خارج إرادة التاجر”!
ترى ما هي هذه العوامل القسرية، والتي تتجدّد دائماً، كي يبقى التاجر يرفع أسعار السلع والمواد الأساسية أكثر فأكثر؟
وإذا كانت الأسعار المحدّدة من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مخالفة للواقع، وأقل من الكلف الحقيقية، فإننا نتحدى أي تاجر أو مستورد أن يكشف عن الكلف الحقيقية لأي مادة مستوردة، وخاصة ما يتعلق منها بـ”التكاليف غير المنظورة”!
نعم.. “إن ضبط الأسعار ليس بالقوة، بل يجب تركها في السوق خاضعة للعرض والطلب”، ولكن هل تتمتع أسواقنا بالمنافسة كي تُطبق عليها نظرية العرض والطلب؟ وإذا أردنا الدقة أكثر فإننا نسأل: لماذا عرض السلع الأساسية كبير والطلب عليها شحيح من قبل ملايين السوريين العاملين بأجر ومع ذلك ترتفع أسعارها بدلاً من أن تنخفض؟.
وعندما يكشف عضو الغرفة “أن المواد التي ترتفع أسعارها في الأسواق غالباً ما يوجد قلة في توريدها وتأمينها للسوق، مما يحدث إرباكات بالبيع لدى التاجر، سواء أكان ببيع الجملة أو المفرق”، فهذا دليل ملموس على أن التاجر يحتكر توريد السلع للأسواق ويبقيها في مستوى الطلب عليها كي تبقى أسعارها مرتفعة.
ليس صحيحاً أن “المنصة” تسبّبت بارتفاع أسعار السلع، لأن أسعار الكثير منها كان قبلها أعلى من بلدان الجوار كالزيوت النباتية، ولكن التاجر يريد العمل بنظرية “دعه يعمل دعه يمر” دون أي قيود أو رسوم، بل يُسوّق في مجالسه الخاصة لـ “دولرة عمليات البيع والشراء”، وهو يمارسها فعلياً من خلال التسعير اللحظي بالليرة حسب سعر صرفها بالسوق السوداء للسلع التي يبيعها لتجار الجملة ونصف الجملة و.. المفرق!!
وعندما يتحدث التجار بغيرية مزعومة بأن دخل المواطن لا يناسب الأسعار فيجعله تائهاً في الشراء، فإن الواقع يؤكد أن التجار أخرجوا محدودي الدخل من حساباتهم، وهم يستهدفون حصرياً المقتدرين مالياً، أي المستعدين دائماً لشراء سلعهم مهما رفعوا أثمانها، والدليل أن استهلاك جميع السلع الغذائية، بما فيها الأكلات الشعبية والمتوفرة في الأسواق، تراجع بنسب مخيفة، ومع ذلك ترتفع أسعارها أكثر فأكثر خلافاً لنظرية العرض والطلب!.
ويضغط التجار لفتح أبواب الاستيراد بكميات كبيرة وللكثير من المواد بذريعة أنها ستؤدي إلى استقرار الأسعار، ولكن بما أن تكاليفها المقدمة من قبلهم ستبقى أعلى بنسب مخيفة من القدرة الشرائية لملايين السوريين، فلمن سيستوردونها سوى لفاحشي الثراء؟!
الخلاصة: تذبذبُ أسعار سعر الصرف، وارتفاع تكاليف الشحن، والتكاليف غير المنظورة، وحوامل الطاقة، والمنصة، والرسوم، وارتفاع نسب التضخم.. إلخ، وهي عوامل نتشارك فيها مع دول الجوار، تحوّل كل منها إلى شماعة للتجار لرفع الأسعار، خاصة وأن بعض المواد الغذائية الأساسية محصور استيرادها ببعض التجار كي يحتكروا انسيابها إلى الأسواق بأسعار مرتفعة، لا يقوى عليها سوى الأثرياء، ما يؤكد أن نظرية “الأسعار تخضع للعرض والطلب” ليست سوى أكذوبة كبرى!!