الكون والتكوين التماوجي وفلسفة محسن خانجي
حلب – غالية خوجة
لا تخفي أعمال التشكيلي محسن خانجي أطياف ذاكرته وظلال أحلامه، بل تُظهرها بتشاكلات سردية وكأنها نصّ يتناسل من نصّ ليظلّ محفوفاً بالملاحم والخرافات والموروث الشعبي ويوميات الحياة والإنسان، وما بينهما من حالات نفسية واجتماعية وحضارية تعود بجذورها إلى طبقات الثقافة السورية، لتخرج من الألوان الناطقة بالجماليات الفنية والصامتة عن أسرارها، المتنوعة في ثيمتها الموضوعية، وهي تتلامح بهيئة عشتار والشمس والقمر والنجوم والفضاء والكسوف والخسوف، وتضافرها مع فنيات اللغة العربية ومنعكساتها الدلالية على ملامح العناصر والعوامل المتكونة مع أعماله التشكيلية، وملامح شخصياته، سواء أكانت رموزاً أم أمكنة أو أزمنة أو كواكب أو مجرات أو حالات مختلفة أخرى.
هذا ما تحيلنا إليه تجربة خانجي عموماً، وهذا ما اختزلته تجربته في معرضه “الكون والتكوين”، في صالته الخانجي للفنون، والمقام بالتشاركية مع مديرية الثقافة بحلب، والذي عرض (18) لوحة بأحجام كبيرة امتدت لمقاس متر ونصف ومترين ونصف.
فما هي فلسفته لهذا العنوان؟ وما أهم الفنيات التقنية والجماليات الدلالية؟
لقد تكاثفت في أعمال هذا المعرض تجريدية الفضاء والإنسان والخط العربي، خصوصاً الآيات القرآنية الخاصة بالكون والتكوين، إضافة إلى الإيحاء بأبعاد ثلاثية للمكونات فيما إذا نظرنا إليها من زوايا تزييغية ما، لنشاهد كيف تصبح الشمس أو النجوم أو الأرض أو الوشيش السديمي والكوني منحوتات وكائنات تسبح داخل الفراغات الملونة بموسيقا تمزج بين الألوان الحارة وتدرجاتها المضيئة، والألوان الباردة ودرجاتها المطَمْئِنة، ومن جهة ثانية، تتناغم مع مكونات وصفات الذرّة علمياً، فتحدّق لترى بتجريدية فنية شكل ذرة الثلج الشفافة، أو ذرة الهيدروجين في حالة بوهيمية، ومن جهة ثالثة، تتشاكل هذه الزوايا من التلقي مع الزخرفة العربية، والنقوش الإسلامية، والأشكال الهندسية التراثية الشرقية والعالمية، لتكون أقرب إلى النسبة الذهبية المتناغمة بين لوحة “نهاية” العالم، التي رمز لها بساعة “القيامة”، وكان أن ضرب الزلزال المدمر في مرحلتين من مراحل رسمها، وبين الأعمال الأخرى المتحركة في أكوانها الفنية الماضية كما الأثر في لوحة “الثقب الكوني”.
الإنسان ثابت والرؤى متغيّرة
وتتسم حيوية الحركية بتماوجات الجاذبية بين الأبعاد الفراغية ومساحاتها المعتمدة على رمزية اللازورد بتدرجاته صعوداً وهبوطاً، كلون أسّيّ محوري من ألوان خانجي، إضافة إلى امتزاج هذه الرمزية بالأرجوان وتدرجاته المشعّة والقاتمة كأحد أبعاد انصهار اللازوردي، وتحولاتها المتحركة بين الألوان الأخرى، ولاسيما لون الطين بخطوطه البيانية الشفافة والكثيفة، ولون الفضاء بزرقته الهائمة بين الأبيض والأسود والرمادي، وكأن السماء تبتعد وتقترب في آنٍ واحد، فاسحة للإنسان أن يتأمل زركشاتها ونقوشها وإكسسواراتها في اللوحة وعلى أطرافها، وبين ذاكرتها وأحلامها، تلك التي حدثنا عنها الفنان خانجي: من خلال ثقافتي العامة والخاصة والفنية وقراءتي للمراجع، وجدت أن الإنسان هو الإنسان، والمتغيّر هو الرؤى الجديدة، وهذا واقع من خلال تلسكوب “جيمس ويب” مثلاً، وما أمتعنا به من مشاهدات، والفكرة أن الفن من الواقع، وأنني أعمل على فكرة ما كلّ سنة لأنجز معرضاً فردياً سنوياً يعبّر عنها، لكن، كيف نغيّر من هذا الواقع فنياً من خلال اللغة البصرية؟.
تساءل وأجاب: الأشكال في هذا المعرض من الكون، محاولة للكشف عن هذا الفضاء، بلمستنا نحن أهل الشرق ومدى ارتباطنا بالكلمة المقدسة، وفنيات الزخرفة العربية والإسلامية والإنسانية.
الهارموني الكوني بأسلوب حديث
بدوره، أكد التشكيلي إبراهيم داود، أمين سر فرع حلب لاتحاد التشكيليين، على تميّز هذا المعرض موضوعاً وفنيات، وتعبيره عن الكونيات والتكوينيات بتكنيك خاص بالفنان خانجي الذي يمزج الفكرة بالتجريد، ويوظف الزخرفة الشرقية بأسلوب حديث، ويحرك الألوان بجمالية بين التباين والتضاد والتناغم.
الفن الفلكي
ورأى الباحث مجد الصاري، رئيس الجمعية الفلكية السورية بحلب، أن خانجي استطاع أن يدخل إلى قلب موضوع الفلك الغني جداً بأفكار فنية وعلمية عميقة ولوحات كبيرة عكست القدرة والخبرة والإبداع، وبدأت بالكون ونشوئه وعبرت إلى هندسته لتصل إلى تكوين الإنسان، بما في هذه الفكرة والأعمال من بُعد فلسفي رائع، وتابع: إنه معرض ببصمة مميزة جداً في حلب، ومنعطف في التأريخ الفني.
توازن واقعي وخيالي
ولفتت منى تاجو، مسؤولة التراث اللامادي في جمعية العاديات، إلى النظرة الفلسفية العميقة للفكرة كخيط يجمع كافة اللوحات. بينما أكدت أحلام استانبولي معاونة مدير الثقافة على أصالة خانجي كفنان وإنسان، وانعكاس إبداعه على حياته ودعمه للحركة الفنية والثقافية باستمرار.
تكريم مشرق
وصرّح جابر الساجور، مدير الثقافة بحلب، أثناء تقديمه الدرع والشهادة التقديرية لخانجي، بأن هذا المعرض هو إبداع لفنان حلبي وعربي وعالمي، توّج فيه مسيرة استمرت لخمسة عقود وما زالت مستمرة، وتكريم مديرية الثقافة لشخصه وفنه ومنجزاته هو تقدير رمزي لعطائه التشكيلي والثقافي والإنساني الطويل والذي استمر حتى في الحرب، فظلت صالته مفتوحة كعادتها منذ 33 سنة، مشكّلةً منهلاً لجميع التشكيليين، إضافة لكونها “غاليري” لإقامة معارضهم رغم كلّ الظروف.