التشكيلي أيمن الأفندي: أرسم التراث بفيزياء اللون النووية
غالية خوجة
الصمت المخيف، حالة يترجمها الفن عن كل إنسان يمر بظروف قاسية، والفنان لا يتحدث دون جدوى، لذلك، أحببت إظهار حضارة بلاد الشام وبلاد الرافدين، لأن حياتهم البسيطة تخبرنا بأنهم كانوا يكتبون على الألواح الطينية، ويفضلون الأدوات الفخارية ومنها الجرار.
بهذا الصمت وهذه العودة إلى حياة الأجداد بدأ حوارنا مع التشكيلي الحلبي أيمن الأفندي المولود في دمشق 1964، من أصول حلبية، والمقيم في حلب وهو أستاذ محاضر في كلية الفنون الجميلة، والذي تأخذك لوحاته إلى عوالمها سواء بالأبجدية الفينيقية وتداخلاتها مع عصور أخرى وصولاً لحياتنا المعاصرة، أو بحضورها كأثر زمني يبدو في لوحاته الهاجسة بحلب الشهباء بين الذاكرة التراثية واللحظة المتأملة للجدران وهندسة العمارة وفراغاتها المزركشة برائحة الحوارات التي حدثت بينها وفنانها وهو يقول: أحاور كل عمل من أعمالي.
ثم، يدير رأسه شارداً بين لوحاته المعلقة بين دواخله والجدران ليتابع متألماً: ضيعت الأحداث والحرب جمالية هذه الحضارة المحلية العالمية الإنسانية، ما حدث لا يُغتفر على كافة الأصعدة، لأن كل جزء من هذا التأريخ العريق هو رمش من رموش عيوننا، وأستثمر، ولو بعمل بسيط، الأعمال الخالدة التاريخية ورموزها من ملوك وحضارة وطريقة حياة وأدوات بتحويلها إلى ألوان زيتية.
الخالدي: الأفندي شاهد على حلب
كان معنا في بداية الحوار التشكيلي صلاح الخالدي الذي عبّر عن تجربة الأفندي بقوله: أعتبره شاهداً على مدينة حلب التي يعشقها وعايش أزمتها ورسم الكثير من مشاهد ذاكرتها من بيوت حلبية وخانات وأسواق متمعناً بعمارتها وهندستها، وهو صديق للطبيعة فلقد رسم غابات الفرلق، ومشاهد من شمال سورية إلى جنوبها، ومن حلب إلى ريف اللاذقية إلى بيوت وأزقة دمشق.
ماذا لو خرجت عشتار من اللوحة؟
حدقت بأعماله، ولفتتني شخصية لوحته عشتار الواقفة بين الجرار في حالة ما، فسألته ماذا لو خرجت من اللوحة وحاورتك؟
أجابني الأفندي: رسمتها ضمن حياتها اليومية كما تصورتها مع الجرار كجزء من الرقُم والأبجدية الأوغاريتية، وتبدو ملامح عشتار لو قرأناها بتحليل نفسي نصفَيْن، فعينها اليمنى طيبة، وعينها اليسرى تشير إلى الشراسة والكراهية الباطنية، وفي الأنف دلالة على جزء من الغباء والسطحية الواضحة، بينما الفم فيوحي بقوة وصوت عاليهز ما خلفها من شجر النخيل المشهور في قصر بابل، والذي اقتطفته من التكوينات القديمة مع حداثة اللون إضافة إلى الأبجدية الأوغاريتية، ولو خرجت هذه العشتار من لوحتي الآن لرأت أن هناك اختلافاً ثقافياً واضحاً بين عصرها وعصرنا، وأخشى أن يكون عصرها أكثر تطوراً وقوة من عصرنا! مثلاً طب الأعشاب كان في زمانهم متطوراً مثل صناعة الأقمشة والألوان الطبيعية.
صمت خالد الأسعد شعلة أثرية
يبدو أنك تبحث عن الأبعاد الجمالية الغائبة الحاضرة؟
من جماليات العمل تعايش الفنان مع الفكرة منذ بداية اللوحة إلى نهايتها، ندفن بعض تفاصيل العمل لإظهار جماليته، وكأنها فيزياء نووية أو ذرات فيزيائية لونية، لذلك، أبحث دائماً عن البعد الثالث بقوة لتبدو أعمالي وكأنها لوحة نافرة، أو لوحة منحوتة، وكأن فيها بعد سري، كما أن التفاصيل المعمارية هامة لأن الإبداع لا يميز السنوات بين الفراعنة والآشوريين والتدمريين، ومنها لوحتي “المدفن التدمري” بفلسفته بين الحياة والموت كجزء من الحضارة التدمرية، وهنا، يحضرني صمت خالد الأسعد وسكوته عن عدم كشف مخبأ وكنوز تدمر والتي هي رمز لكنوز سورية مقابل حياته، مما جعله رمزاً من الرموز الوطنية التي تركت شعلة في الآثار المحلية والعالمية والإنسانية.
تبادلني اللوحة عملية الإخراج
وعن كيفية تناغماته بين الفكرة والصورة والمخيلة ومفردات العمل الفني وعلائقها، أجاب: أتصور أن العمل سينتهي بخطوط وصورة فنية لكنني عندما أنتهي منه أجده تغيّر لأن تركيبته تتداعى فتتغير الألوان ومشاعرها مع مشاعر فنانها وأبعادها الأخرى، وكأنها في المرحلة الأخيرة تتبادل مع الفنان عملية الإخراج أو تتمرد عليه أو تغافله وتأخذه من تصوراته إلى واقعها.
التراث قشعريرة الحواس
وأضاف: موضوع المنظور محور أساسي في العمل، بعض الناس تشعر أنني أبالغ لكن حبي المفرط لحلب يجعلني أرتعش، عندما دخلت إلى خان الوزير شعرت بأن القشعريرة أصابت حواسي، ودمعي انهمر من جمال الزخارف المعمارية المتواجدة في الواجهة الداخلية، فرسمت لوحة لخان الوزير من الداخل ويبدو فيها الدرج والكرمة والنباتات الطالعات من بين حجارته الأثرية، ورسمت الشخصيات المتواجدة حينها بين حرس وزائر.
فسألته وهو ينظر إلى لوحته المعبّرة عن خان الوزير من الداخل: لكن، لو نطقت هذه الجماليات المعمارية، ترى ماذا كانت ستقول؟
دون تفكير، أجاب: ستتحدانا قائلة: دعوني أرى إبداعاتكم بعد أزمنتي.
وتابع: الجمال المصقول يدوياً بين الحفر والتناظر والنعومة مبهر، إضافة إلى الموسيقا الجمالية التي تعزفها تلك الزخارف رغم صلادتها وصمتها، فتشعر بأن روحاً ما زالت تتحرك فيها، تشعر بأن أرواح أجدادنا ما زالت تعيش في المدينة القديمة، في البيوت، وبين الأنقاض، فحجرة واحدة منها تنبض بالتعدد اللوني الذي لا يراه الإنسان العادي، والفنان يكشف السرّ الملون المخبأ في هذه الحجارة من إشراق ونبض وحركة.
واسترسل: هناك أيضاً، لمحات محورية في الديكور كفن وإبداع، مثلاً..، إطار القناطر التراثية والمحال التجارية ذات الأبواب الكبيرة الأثرية والقناطر المتوجة بالزخارف الحديدية مثل سوق السجاد.
دوران اللون مع الكون
وماذا عن المولوية كجزء من تجربتك؟
قال: ازدهرت المولوية في حلب منذ 1950 كشعائر دينية واحتفالية، وبحركاتها الفردية أو الجماعية يجد الحلبية فيها روح الفن، وهم مشهورون بذوقهم الفني، وبتعلّقهم الروحاني، وما رقصة المولوية إلاّ حالة من هذا الدوران الداخلي مع الكون ووحدته وتفاصيله، لذا، فإن الثوب الأبيض بدورانه دليل على الاندماج بين شخصية اللوحة وهذا الفضاء.
وابتسم مضيفاً: كأنني ما زلت في هذا الدوران اللوني منذ طفولتي التي ظهرت فيها موهبتي، فقديماً، أيام الصيف كانت مباركة، والنهار ممتد كأنه إلى ما لا نهاية، وكانت لدينا “فازة برونز” ودفاتر رسم وضعتها على الطاولة ورسمت الفازة وفوجئت بأنني رسمتها كما هي، فشعرت بأنني أرسم فناً بعدما بدأت مثل جميع الطلاب برسوم العلوم والخرائط، واتجهت للرسم بالمحاكاة، ثم إلى الطبيعة الصامتة، واكتشفني أحد أساتذتي في الصف السابع، ودخلت إلى مهنة حفر وتنجيد الموبيليا، ودرت مع الألوان كما دارت في أعماقي مورثة الفطنة والنباهة والفراسة التي أصابتني من والدتي ثم والدي، وشعرت بالحاسة السادسة منذ كنت في الصف الرابع.
الإبداع خبرة وتعليم
أمّا عن المشهد التشكيلي بحلب بين الفنانين المعاصرين والجيل الشاب، فأجاب: بلا شك، قديماً وحديثاً، حلب مشهورة بالمبدعين، وتمثيلاً لا حصراً، أدهشني يوسف عقيل كفنان معاصر بألوانه وأفكارها البسيطة الجمالية، والفنان صلاح الخالدي وتأثيره في الأعمال الخاصة بالأمكنة الأثرية، والفنان محمد صفوت بعالمه الجميل بين الطبيعة والبورتريه، أما الجيل الجديد، فأرى أن كثيراً من خريجي كلية الفنون بين الكسل وعدم القدرة وعدم المتابعة، ربما..، لأن معدلهم التعليمي في الثانوية أهّلهم لكلية الفنون بعدما نجحوا في امتحان القبول الذي تهيأوا له بدورة، لكن، قلة من هذا الجيل الشاب هم من المبدعين الذين يبحثون عن هدف وهاجس وإثبات لشخصياتهم الفنية، وهنا، أودّ أن أنوّه إلى أن الإبداع والخبرة نواة أساسية تتفوق على الشهادات التعليمية، لذلك، أستغرب كيف شركة غوغل البرمجية العملاقة صارت تطلب أصحاب الخبرات لا الشهادات التعليمية الاختصاصية، وأتساءل: لماذا الواجهة معكوسة لدينا؟
توقعات مفتوحة بين حلب ودمشق
وعن أهم معاناة للتشكيليين، أجاب: نحتاج إلى وسائل وأساليب أخرى لتصل أخبار معارضنا التشكيلية إلى المجتمع الحلبي الذواق، لنراهم وهم يتفاعلون مع أعمالنا المختلفة والمتنوعة، وهنا، أتساءل: لماذا المعارض التي تقام في دمشق في أماكن مختلفة ومنها البيوت العربية الدمشقية العريقة التي توظف للمعارض، تحقق حضوراً اجتماعياً ومبيعات تستهوي المقتنين بينما في حلب فنادراً ما تباع لوحة؟ ربما، لأن أهل الشام يعرفون بالمعارض وأمكنتها ومدتها ويحبون اقتناء الأعمال الفنية، ولندع التوقعات عن حلب مفتوحة، ولنتساءل: أما آن أن يكون هناك تفكير بأسلوب جديد سواء على الفضاء الالكتروني للمعارض والمبيعات أو مزاد علني في الفضاء الواقعي، في الأماكن العامة أو الكافيتيريات الفنية الحديثة؟