مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. وحيدة أسعد: طريق النحل بين القطيلبية ودمشق و”الجزائر”

تمّام بركات

صورة رقمية، لصورة فوتوغرافية من زمن التحميض، وصلتها على الجوال، لتخطفها تماماً لبضعة لحظات، من نفسها ومن المكان والزمان، قبل أن يُعيدها ولو جزئياً أو على دفعات، صوت زميلتها من أقصى شرودها، بابتسامة هادئة على وجهها، بينما لا يزال شعباً من قلبها، معلقاً حيث خُطفت منذ قليل. تحرك “السرفيس” الذي يقلها وزملاؤها بعد العمل، شمس الظهيرة في حزيران، ترخي بثقلها على الركاب، والحر يطهو الصحو في قدوره العالية، صمت واحد كأنما متفق عليه، لا شيء يخترقه إلا أصوات الحياة التي استعادت السيدة وحيدة أسعد -54 عاماً- بعضاً منها، بينما لم يزل شرودها عالقاً في عالم ندي، ابتكرته الصورة طازجاً في خيالها، رغم السنين الطويلة التي طوته، وعلى نغمة رسالة أخرى، انتبهت “أم حيدر” من شرودها، إنها ابنتها تطمئن عليها، ثم ابتسمت وكأنها تودع تلك الذكرى العزيزة، التي أعادتها صورة رقمية، لصورة من زمن أخر، وصلت صندوق بريدها، ثم استقرت في روحها. يظهر في الصورة، التي بقيت معروضة على شاشة الجوال، بناء أبيض اللون من طابقين، أمامه فسحة صغيرة، وحوله بتنسيق طبيعي مدهش، ضربت أشجار الجوز والليمون والحور سوراً حنوناً، وفي خلفية الصورة، نهضت تلال خضراء، تشكل أكتاف جبل تلهو قمته بالغيم، هذا كله، كان يوماً ما هو العالم الذي عاشت في أكنافه، مرحلة مفصلية في حياتها، فالبناء هو مدرسة “الجزائر الخاصة” الموجودة في ضَيْعة “القطيلبية”-ريف جبلة-وفيها نالت الشهادة الثانوية، قبل أن تنتقل إلى دمشق لمتابعة دراستها في المرحلة الجامعية.

“لا يحتاج الأمر لأكثر من صورة أحياناً، تكون تذكرة حظك لركوب آلة الزمن، والسفر إلى حيث لا أحد يعلم إلاك” تقول وحيدة، وهي تعرض صورة مدرستها مفاخرة بكونها من اللواتي خضن طريق العلم، وكانت هذه المدرسة بالتحديد، عالمها الأكثر سعة وحلماً وألفة.

عام 1990، نجحت وحيدة في البكالوريا، وعندما ظهرت نتائج المفاضلة الجامعية، كان عليها أنت تغادر بيتها، للدراسة في دمشق، حيث ستختار لها الأقدار طريقاً جديداً في الحياة، ففي الشام تعرفت على الرجل الذي سيصبح زوجها، وبعد الزواج استقرت في دمشق، لتبدأ الحياة بمتطلباتها التي لا تنتهي، بالضغط على الذاكرة والمشاعر والأمكنة، حينها تحولت “القطيلبية” بدروبها الساحرة وطبيعتها المتفجرة روعة وحسن، إلى ملاعب للذكرى العزيزة، تزورها السيدة وحيدة، زيارات متباعدة، وفي المناسبات بأنواعها أيضاً، تقول وحيدة: “ما من مرة توجهت فيها للسفر إلى الضيعة، إلا وسبقني قلبي بالذهاب، أعود طفلة ويصبح الطريق، خيط سكاكر، ولا استطيع الانتظار لأصل” تضحك وحيدة وهي تسترجع تلك الذكريات البعيدة، وتتابع “نبقى أطفالاً أمام ما نحب”. اليوم، وبعد سنين طويلة على هجرة الفتاة بجدائلها الطفولية لعالمها الأمن والودود، تؤكد أم حيدر، أن ذلك الشعور الوجداني العالي، الممزوج بطفولة أبدية، هو ما يعتريها حال وصولها إلى الطريق الجبلية المؤدية إلى قريتها، وأول بناء تطالعه وتتوقف لتسلم عليه في المكان، هو مدرستها البيضاء “للحظة أستطيع أن أستمع لأصوات الرفاق، وصوت “أبو علي” مدير المدرسة، وصوت البلابل التي كانت وما زالت تشدو في المكان” تقول وحيدة قبل أن تعود لتشرد في خيالها، محاولة التقاط أدنى نأمة، من أصوات ذلك الزمان، تقبض عليها بحنو، وتعصر ألفتها حتى آخر قطرة.

تعمل اليوم السيدة وحيدة أسعد في المصرف التجاري السوري، هاتفها لا يهدأ من أبنائها الأربعة، الذين لا يزالون يحتاجون رعايتها وعنايتها، رغم أنهم كبروا، منهم من صار ضابطاً في الجيش، ومهم من يدرس في الجامعة، ومنهم من تزوج وأنجب، وتحت هذا الضغط المحبب عندها، تهرب وحيدة للحظات في خيالها، إلى عالمها الأليف، البديع، ولا يحتاج الأمر منها، إلا أن تطالع صورة في جوالها، تحملها بكامل كيانها إلى حيث بقيت روحها موزعة، بين البيت والطريق والمدرسة، محروسة بطيف والدتها، وصوتها المنادي بالرضا على وحيدة، ابنة قلبها.