إبداع الحياة
غالية خوجة
ما الإبداع؟ فكرة؟ أم كيفية؟..
لست في صدد التعاريف، لكنّ الإبداع كيفية منتجة للفكرة، والفكرة منتجة للكيفية في آنٍ معاً، وهذا التداخل يصوغ الشكل الإبداعي كنصّ مؤلف من متن ومبنى معاً، فلا يمكن لغير مبتكر هذا النص أن يكون مبدعه، سواء في الأجناس الأدبية أو الفنية التشكيلية أو الموسيقية أو العمرانية أو التصويرية أو الفكرية أو الفضائية، ولذلك، فلسف المعري شعريته المتصوفة: “وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانهُ لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل”.
وللمبدع أن يعاني في زمانه لأنّ ساكني هذا الزمان ليسوا مستعدين لاستيعابه المختلف عن طريقة تفكيرهم وحياتهم، وليتهم يقفون على الحياد ولا يؤذون، وهذا من المعتاد أن يحدث مع كلّ من يغرّد خارج الذات الجمعية الاعتيادية، وكم عانى ويعاني وسيعاني المبدعون، ومنهم المتصوفة والفلاسفة والشعراء والمفكرون والتشكيليون والموسيقيون، وذلك لأسباب لا تُحصى، منها عدم قبول العقل الجمعي لغير ما اعتاد عليه، ومعروف أن المألوف يتغلّب على مغامرة التغيير والانزياح والانعطاف، ومنها أن المبدع يقدّم نصاً مثقفاً بأبعاد موسوعية ذات فضاء كوني تكويني جديد بمكونات وتشكيلات متفاعلة على مختلف الأنساق، ببطولة اللغة مثلاً، أو “النوتة” الموسيقية، أو الألوان، فتتكاثف علوم اللغة ودلالاتها وسيميائياتها وإحالاتها مع العلوم الإنسانية كالاجتماع والنفس والعلوم الطبيعية أيضاً، مما يتطلّب من المتلقي طاقة ثقافية، وتفاعلاً إيجابياً، وتناغماً نفسياً، ليساعد ذاته في التوغل إلى الضوء الجديد بعيداً عن الاعتياد الذهني وحواسه الخاملة، فيقرأ تلك الأعماق وكأنه مستكشف لغابة غرائبية، أو لمحيط لا يعرفه أحد، فينطلق إلى النص الغائب من النص الحاضر تبعاً لعناصر وعوامل النص، فنكون أمام كيفية أخرى هي كيفية القراءة الإبداعية، أو كيفية التلقي التشاركية بين القارئ والنص ومبدع النص.
ويبدو في زمننا التقاني أن العقول أصبحت أكثر استهلاكية من أن تكون إنتاجية ثم إبداعية، وقريباً، ستكون هناك برامج إلكترونية تؤلف الشعر وترسم وتغني وترقص وتتكلم وتكتب المقالات العلمية والفكرية والصحافية وتجيب عن الأسئلة العلمية والفكرية والفضائية، مما يجعل العقل البشري في حالة ضمور حاضرة ومستقبلية إذا لم ينتبه لنفسه ويعرف كيف يوظّف طاقته الإنسانية الإبداعية في حياته حتى اليومية، لأن كيفية الأداء اليومي بفنية وإبداعية تجعل الذات والمجتمع والحياة أجمل، مما يجعل البرامج الإلكترونية مهما تطوّرت تفتقد إلى ذاك الإحساس الإنساني العميق، وإلى ذاك الأداء والتفكير والإبداع كفضاء خاص بالإنسان.
في هذه الزحمة الافتراضية، نلاحظ ازدحاماً واقعياً آخر بين البشر، خصوصاً، للفئة الأكبر المصابة بنقص الثقافة وبعاهات تقدّس التخلف والجهل والاستهلاك، وهي موجودة بين كافة الأعمار ومنها الشباب.
ولا بدّ من كيفية إبداعية للخروج من هذا المشهد الخامد، ولاسيما أننا نفتقد المبدعين من الأجيال السابقة سواء بالموت، أو الوصول إلى مرحلة لا تجدد فيها ولا جديد.
فما دور الجهات المعنية؟ وما دور المدارس والجامعات؟ ما دور المجتمع؟ ولماذا لا نعيد ترتيب الأفكار والأهداف وصياغتها بإبداعية منهجية، سواء في أساليب ومناهج التدريس، أو أساليب الإضاءة على المبدعين المعاصرين، ومحاولة الاعتماد على بعض مواهب الجيل المبدعة القابلة للتثقيف والتفعيل كما يجب لتكون الرافد المستقبلي، لكن، ضمن أسس ضوئية تمتلكها داخلياً، لأن عملية التصنيع مهما نجحت ستذبل يوماً لتكشف عن إمكاناتها الداخلية.
وبالمقابل، يحقّ لنا الفخر بأجدادنا وجداتنا الذين أبدعوا حياتهم كنصوص أدائية، فاستطاعوا التغلّب على العتمة بمواهب الكيفية واحتمال كافة الظروف وتطويعها، والصبر على الآلام للوصول إلى التغيير الذي نعيشه اليوم لكنه أصبح عادة تحتاج إلى تغيير أيضاً بكيفية إبداعية.