العرب الذين يقولون “لا”.. وسورية كقيمة مضافة قومية
بسام هاشم
تجد الدول العربية نفسها اليوم في النقطة صفر التي كانت توقّفت عندها بداية العقد الماضي.. الأمر أشبه بالعودة إلى نقطة البداية، مع فارق أساسي، وهو أن مفترق عام 2011 فتح الأبواب على مصراعيها نحو الجحيم العربي الذي أخذ يغلي ويفور بكل المستنقعات الراكدة: الثارات، والانتقامات، والأحقاد، والعمالة للأجنبي والتكفير والتطرّف، ليستفيق الجميع، ودون استثناء، على سلسلة خيبات غير منتهية، وعلى خسارات معمّمة وشاملة..
ولحسن الحظ، وربما للأسف العميق أيضاً، أن ذلك الشعور بالخسارة والخيبة هو ما انتهى بنا اليوم إلى تلك الصحوة التي طبعت انعقاد قمّة جدة.. صحيح أن المشكلات والخلافات لن تسلك طريقها إلى الحل مباشرة، وأن القرار العربي لا يزال يخضع لتجاذبات متباينة، وأن أزماتٍ ومشكلاتٍ جديدة تضاف إلى جدول الأعمال العربي مع كل تقدم، وأن حرائق جديدة بدأت تشتعل فعلاً، إلا أن من الصحيح أيضاً أن هناك وعياً قومياً غير مسبوق آخذاً بالنهوض، وأن هذا الوعي ينهض في جزء كبير منه على ذلك الشعور الصافي، والخام، والفطري، بالرابط المقدّس للأخوة العربية، وهو ينهض من جانب آخر على رغبة غريزية أساسية في إشغال مكانة لائقة، واحتلال مقام، والتمتع بالجدارة، في عالم لا يعترف بالضعفاء، ولا يأبه بالمحترمين، ولا يتعامل إلا وفق معادلات وموازين القوة الغاشمة.
المسألة، باختصار شديد، تطرح نفسها اليوم على الشكل التالي: هناك عالم عربي أتخم بدفع الأثمان الباهظة، ولا يريد أن يكون مرة أخرى ضحية التحوّلات الدولية. لقد أرهق بالأحادية القطبية، وشهد كيف تحوّلت الحرب الأمريكية على الإرهاب، ومن ثم “الربيع الأمريكي” إلى وسيلة لتقسيم العديد من البلدان العربية، وذريعة للتدخل في شؤون بلدان أخرى، أو تحويلها إلى دول فاشلة، وكيف أن القضية الفلسطينية أصبحت خارج دائرة الاهتمام الدولي، وأن إسرائيل فوق المحاسبة، وكيف باتت بلدان عربية بحكم الملغاة، وأخرى آخذة بالتلاشي، خارطتها إلى القضم والتقلص.. وقد يبدو ذلك كله محتملاً – ومفهوماً – إلى حدّ ما، لاعتبارات “أمنية” وجيوسياسية، ولكن أن تصل بعض الحثالات إلى سدّة القرار في الإدارة الأمريكية، أو في بروكسل وبقية العواصم الأوروبية، وأن يخرج معتوه مثل ترامب، أو عجوز مثل بايدن، أو أبله مثل جونسون، أو سطحي مثل ماكرون، لإعطاء الدروس وإملاء الأوامر فيما يتوجّب على الآخرين عمله، فتلك هي أم السخرية، وعين المصائب.
لعل الصحوة / الانتفاضة العربية الحالية إنما تأتت، عملياً، انطلاقاً من هذه الواقعة، فقد تحوّل عالم الأحادية القطبية إلى نوع من المفارقة المضحكة المبكية، وصار بإمكانك أن تتحقّق، ببساطة متناهية، من أن بقاء القوات الأمريكية في سورية، مثلاً، إنما يخضع لاعتبارات تتعلق بالمصالح النفطية للمدعوّة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق، وأن استمرار الحرب في أوكرانيا مرتبط بمستقبل مشاريع وشركات هنتر، ابن الرئيس الحالي جو بايدن، وأن واشنطن تشنّ الحرب على روسيا لأن بومبيو على علاقة باللوبي النفطي في العاصمة الأمريكية، وأن هذه اللوبيات على صلة وثيقة بالحركة الصهيونية العالمية.. إلخ تلك المهزلة الشنيعة التي ترهن سلام وأمن وحياة الملايين من البشر للحسابات الشخصية لبعض عتاة القتلة والمنحرفين الذين يرتدون قمصاناً بيضاء منشّاة ويضعون ربطات عنق. لقد تحوّلت السياسة الغربية خلال السنوات الأخيرة إلى مسرح للفرجة، وكلما كانت درجة الصلف والعجرفة الأمريكية تعلو كانت الجرأة على المواجهة ترتفع.. وفجأة باتت المصالحة بين إيران والسعودية ممكنة، وغدا رفع العقوبات عن سورية مطلباً قومياً وأخلاقياً وإنسانياً، وأصبح رفض الإملاءات الأطلسية أمراً واقعاً.. إن وحدة مجموع العرب على قول “لا” للأمريكي والأوروبي الغربي أصبحت حقيقة ممكنة.
بعيداً عن اللغة الخطابية، ودون مغالاة، يمكن القول إن الأمة العربية تدلف إلى ربيعها الحقيقي هذه المرة: إن القرار المستقل يعود إلى أبناء المنطقة، وتلك كانت معضلة في السابق؛ وهناك شعور لم نلمسه منذ فترة بعيدة بقوة الأخوة والتضامن، وهو ما يبعث على الثقة والتفاؤل؛ والأهم أننا بصدد العودة إلى معادلة الثقل التاريخي والدول المحورية، وهو ما نلمسه خاصة في صلب الاتصالات والمشاورات القائمة حالياً بين سورية والسعودية.. ومعنى ذلك أن “الجحيم العربي” أنهك سورية اقتصادياً ومعيشياً، ولكنه لم يستطع المساس بمكانتها ودورها اللذين لا يعبّران اليوم عن “فائض قوة”، بقدر ما يعبّران عن الحاجة إليها كقيمة مضافة قومية. وكما أوضح السيد الرئيس بشار الأسد في قمّة جدة، فـ”سورية هي قلب العروبة وفي قلبها”، وقد “تعيش” عروبة من دون قلب، ولكنها لا يمكن أن “تحيا” إلا به.