فرنسا المنفصلة عن الواقع تعيش أحلاماً غير صالحة لعالم اليوم
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
لا تزال فرنسا الاستعمارية تعيش أحلام الماضي، وهي في كل مناسبة، وتحديداً فيما يخص الشأن السوري، تحاول إعادة موروثات حقبتها الاستعمارية، وكأنها منفصلة عن الواقع السياسي الذي تبّدل كثيراً منذ انتهاء عصر الاستعمار القديم. فرنسا لا تدرك، أو بالمعنى الأدق تتغابى ، بأن سياسات الهيمنة التي كانت سائدة في عصر من العصور لم تعد صالحة في عالم اليوم. ولعل ما يدلل على هذا الغباء، هو السعار الذي أطلقته الخارجية الفرنسية ضد الدولة السورية، وبالتالي الابتعاد كثيراً عن الواقع الذي فرضته خواتيم الحرب الإرهابية على سورية، والتي كانت آخرها فشل فرنسا هي وأدواتها الإرهابية في تحقيق أهدافها في سورية، والقرارات التاريخية التي اتخذتها القمة العربية في المملكة العربية السعودية تجاه سورية، أفقدت صواب فرنسا، بل أصابتها بالعمى عن الحقائق والمتغيرات على الساحتين العربية والإقليمية وعلى الساحة الدولية، لكن هذا لا يبرر لها في أي منطق أن تطلق حملتها الهستيرية المنفصلة عن الواقع الذي لا يتماشى على الاطلاق مع موروثات حقبة الاستعمار، لأن عالم اليوم أنتج قيماً جديدة تقوم على تعددية الأقطاب، ورفض العقوبات الاقتصادية غير الأخلاقية واللاإنسانية، واحترام سيادة واستقلال الدول والمساواة فيما بينها.
بعد استعادة سورية مقعدها في الجامعة العربية، ومشاركة الرئيس بشار الأسد في القمة العربية، لم تستطع وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، أن تكظم غيظ بلادها، وهاجمت الدولة السورية تحت نفس العبارة المضحكة “إنها جزء من قيم الدبلوماسية الفرنسية”، متناسيةً أن هذه القيم لم يحكمها سوى النهب والهيمنة وتدمير الدول، والأمثلة كثيرة لا تحصى، وليس آخرها العقوبات الأوروبية على الشعب السوري، التي استبعدت وزيرة خارجية فرنسا أي رفع لها، أو حتى تغيير موقف فرنسا حيال الدولة السورية.
علاقات متوترة
خلال أربعين عاماً كانت العلاقة بين سورية وفرنسا ملتبسة إلى حد كبير، ورغم ذلك سعى المسؤولون الفرنسيون للحفاظ على الحضور الفرنسي في المنطقة، بيد أن باريس من عام 2011 اضطرت للابتعاد عن سورية بفعل الضغط الإسرائيلي الأميركي.
كان التعامل الفرنسي مع سورية مبنياً على الغموض بدءاً من الرئيس فاليري جسكار دستان، إلى فرانسوا ميتيران، فجاك شيراك، الذي حدثت في عهده كثير من التغييرات، وصولاً إلى نيكولا ساركوزي الذي انفتح على سورية مؤقتاً، ولكن الحرب الإرهابية على سورية ما لبثت أن أعادت ساركوزي إلى سيرته الأولى التي أكملها بعده فرانسوا هولاند.
اضطرت فرنسا إلى إعادة رسم سياساتها بخصوص سورية بعد الحرب الإرهابية عليها عام 2011. ولفهم الميكانيكيات التي ولّدت الوضع الدبلوماسي، ترجع المؤرّخة مانون نور طنّوس في كتابها “شيراك والأسد والآخرون” إلى تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين منذ نهاية الانتداب الفرنسي على سورية (1920 – 1946) محاولةً الإجابة على الأسئلة الكبرى، وهي على أي أسس بنيت العلاقة الفرنسية- السورية؟ كيف يمكن تفسير تقلّباتها وأزماتها؟ من هي الأطراف الفاعلة فيها، ومن هي الأطراف التي تتدخّل فيها؟.
لقد خاض إيمانويل ماكرون التجربة في شهر كانون الأول 2017، ففي مقابلة أجراها على المحطة الفرنسية الثانية، قدّر الرئيس الفرنسي أنّ الحرب ضد تنظيم “داعش” ستنتهي بانتصار في سورية، وهو بذلك لم يجري تغييراً بالمقارنة مع حقبة فرنسوا هولاند. بمعنى أن فرنسا كانت رأس الحربة بدعم الإرهاب، ويدها غارقة في الدماء السورية منذ الأيام الأولى.
دبلوماسية النفوذ
كان الموقف الفرنسي على الدوام يشير إلى رغبة في أن تلعب فرنسا دوراً في مفاوضات السلام التي تتأرجح بين جنيف وأستانة في كازاخستان. بالنسبة لفرنسا يتعلّق الأمر بالاعتماد على سورية لاستعادة مكانتها في الشرق الأوسط، أكثر مما يتعلق بإعادة إحياء العلاقات الثنائية. وللتركيز على هذه النقطة، خصّصت مانون نور طنوس لإيمانويل ماكرون فصلاً كاملاً في كتابها “شيراك والأسد والآخرون”، حيث تحاجج المؤرخة بأن سورية وفرنسا سعتا دائماً إلى الاعتماد واحدهم على الآخر، دون أن ينجحوا في تأسيس علاقة حقيقية. فرنسا من ناحيتها، كانت تريد استخدام سورية لتكون في المشهد الشرق الأوسطي، أمّا سورية، فكانت تريد استخدام فرنسا لمحادثة الولايات المتحدة، وهذا ما سمّته مانون نور طنّوس “دبلوماسية النفوذ”
غير أن هذه الآلية ذهبت بدون رجعة خلال فترة الانقطاع الطويلة التي بدأت في نهاية رئاسة نيكولا ساركوزي، على إثر تعليق العلاقات الدبلوماسية في آذار 2012، قبل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية، والذي استمر خلال حكم فرنسوا هولاند. إلى الآن، تحاول فرنسا إعادة تشغيل الآلية، لكن سورية التي تأذت كثيراً من فرنسا لجهة دعم الإرهابيين وفرض العقوبات عليها، لم تعد مهتمة بهذه العلاقة، مستمدةً قوتها من الدعم الدبلوماسي والعسكري من إيران وروسيا والصين، وأخيراً من الأشقاء العرب، وهو بالضرورة ما يفسر كل هذا السعار الفرنسي اليوم.
نظرة تاريخية
في إطار تفكك الدولة العثمانية، انتُدبت فرنسا من قبل عصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة) من أجل “مرافقة سورية نحو الاستقلال”، ولكنها قامت على العكس بدور وصي استعماري، فقمعت حركات التحرر، وألّبت بين الطوائف، وجزّأت سورية إلى مناطق متعددة. بقيت هذه النزاعات دائماً في خلفية المشهد.
تابع فرنسوا ميتران هذا النهج ومضى أبعد مما كان مرسوماً له لجهة اسقاط الدولة السورية، وحينها توترت العلاقات ووصلت حتى القطيعة. أراد جاك شيراك إنعاش العلاقة، وبحسب كافة التحليلات، كانت حقبة شيراك هي الفترة الوحيدة التي جنت فيها فرنسا مكاسب من علاقتها مع سورية، ولكن سرعان ما بانت الحدود سريعاً، ما أدى إلى قطيعة مدوية.
في عام 2003 كان غزو أمريكا للعراق نقطة تحول في تغيير المعطيات. حاول شيراك حينها إرسال رسائل إلى سورية بأن الأمور لم تعد كما كانت في السابق. وفي الوقت ذاته، بعد رفض فرنسا العلني لغزو العراق، أراد الرئيس الفرنسي التقرب من واشنطن، فكانت فرنسا في طليعة محرري قرار الأمم المتحدة رقم 1559، والذي يوجب على القوات السورية مغادرة لبنان.
ومنذ ذلك القرار، دخلت العلاقات السورية الفرنسية في مرحلة التأرجح، وربما التوتر، حتى الحرب الارهابية على سورية في 2011 والتدخل الفرنسي السافر من خلال دعم الإرهابيين، واللعب على حبال إسقاط الدولة السورية، وهو الأمر الذي عجّل قطيعة أخرى. لم يرد ساركوزي أن يفوّت ما اعتبره حلقة جديدة من “الربيع العربي”، وسرّع فرنسوا هولاند هذا النهج باعترافه بما سمي “المجلس الوطني السوري” الذي أسس في تشرين الثاني في قطر، معتبراً إياه الحكومة المؤقتة المستقبلية في سورية”، أي اسقاط الدولة السورية المعترف بها دولياً لحساب مجموعة مرتزقة دعمتهم منذ انطلاق شرارة الحرب الكونية على سورية.
منذ بدء الحرب الارهابية على سورية، أدارت الحكومة الفرنسية اللعبة من الخارج بتشجيعها تكوين ما يسمى “المجلس الوطني السوري” الذي رأسه برهان غليون، حيث كانت أول دولة غربية تعترف به كممثل للمعارضة. ورغم تصريحات المسؤولين الفرنسيين النارية، إلا إنها مع قرب الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي جرت في عام 2012، تراجعت بشكل ملحوظ خوفاً من الإنغماس في الأزمة والتي ربما تنعكس سلباً على انتخاب ساركوزي. بعد وصول فرانسوا هولاند إلى سدة الرئاسة الفرنسية، استمرت فرنسا في دعمها للمعارضة السورية، إلا أن الموقف الفرنسي عاد إلى الواجهة بالتشديد على الدولة السورية في قصة الكيماوي المزعومة في 21 آب 2013، وحينها دعا هولاند إلى ضرورة استخدام القوة العسكرية، وأن فرنسا ستكون من الدول المشاركة.
حقبة ماكرون
اكتسبت فرنسا حظوة في الوطن العربي، وضمنت مصالحها الاقتصادية نتيجةً لما تم تسميته “السياسة العربية لفرنسا”، والتي انطوت في جوهرها على مقاربة موضوعية ومستقلة حيال المسألة الفلسطينية. لكن الاضطرابات التي هزّت العالم بأسره، والتغييرات التي سعى إلى تحقيقها الرؤساء الفرنسيون المتعاقبون على اختلاف ميولهم السياسية والإيديولوجية والعاطفية، أدّت إلى استبدال هذه المقاربة الواسعة تدريجياً بالعلاقات الثنائية، سواء أكانت هذه جيّدة أم سيئة، مع مختلف الدول العربية.
ليس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذاً، أول رئيس يزعم، باسم الفاعلية والبراغماتية، بأنه سيلعب دوراً في الشرق الأوسط يميّزه عن خلفه. لكن الدور الوحيد الذي سيوكل إليه، والذي أصبحت مؤشراته الأولى واضحة للعيان، أنه سيكون شريكاً تابعاً للولايات المتحدة الأمريكية، بدليل أن كل تصريحاته ومواقفه تؤكد على هذا المنحى.
حاول إيمانويل ماكرون، كما أسلافه، زيادة أصول فرنسا الاستراتيجية إلى حدّها الأقصى- في مجالات عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، ووضعيتها كقوة نووية، وقدراتها العسكرية- بهدف استعادة مكانة فرنسا الضائعة في منطقة الشرق الأوسط، وللتعويض عن محدودية كون فرنسا قوة متوسطة، وخير مثال هنا سورية، حيث أراد ماكرون أن يضع فرنسا في موقع “الوسيط النزيه”، عبر التواصل مع الأطراف المعنية كافة، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وشركائها الأوروبيين، فضلاً عن الجهات الفاعلة الإقليمية على غرار إيران وتركيا والسعودية، لكن تبين لاحقاً أن كل الأطراف ليست بحاجة لفرنسا، فروسيا ترعى إطارها متعدد الأطراف الخاص بها من خلال محادثات الأستانة، وتشارك بشكل مباشر مع واشنطن في إقامة مناطق خفض التصعيد في الجنوب ووادي الفرات.
لقد أطلق ماكرون، في بداية عهده الذي غلبت عليه أجواء التفاؤل، سلسلة من المبادرات تتعلق بالسياسة بالخارجية حول مسائل معقّدة شملت روسيا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وليبيا، وكان هدفها وضع فرنسا مجدّداً على خريطة السياسة الخارجية، بعد رئاسة فرانسوا هولاند التي نُظر إليها على نطاق واسع على أنها فاشلة دبلوماسياً، لكن ما تبين لاحقاً أنها مجرّد مناورات لتحقيق الحضور والظهور العام.
لم يدرك ماكرون أن منطقة الشرق الوسط كانت مقبرة للعديد من المبادرات الدبلوماسية، وأحرق فيها سياسيون مخضرمون أصابعهم. لقد أراد ماكرون أن يخوض غمار السياسة في المنطقة بشكلٍ أفضل وأذكى ممن سبقوه، لكن يبدو أن الاحتمالات عاكسته مثلما عاكست كل سياسي غربي آخر، وذلك بسبب استعراض العضلات الذي اعتمدته في سورية.
من هنا جاءت تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، متساوقة مع النهج نفسه الذي اتبعه ماكرون في سورية والذي يركز فيه على عدم وجود أي توجهات نحو إعادة العلاقات مع الحكومة السورية، وهي بالضرورة، أي التوجهات الفرنسية، لم تكن غريبة فهي تأكيد على الاستمرار في السياسة الفاشلة التي انتهجتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة إزاء سورية المستلهمة من إرث أسود في استعمار واستعباد الشعوب. لكن ما لا تعرفه كولونا ورئيسها ماكرون أن سورية غير مهتمة بأن يكون لها أي نوع من العلاقات مع دولة ساهمت بالعدوان الإرهابي عليها وتلطخت أيديها بدماء السوريين.