مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. سامر محمد إسماعيل: بين “المرحة” وحي “الميدان”، ثلاث حيوات للوردة

تمّام بركات

السيارة التي تقله ووالده، إلى قريتهما في ريف حماه، عبرت أمام بيتهم في حي الميدان الدمشقي، البيت الذي تعرفا فيه على بعضهما البعض لأول مرة، الأب الذي أصبح أباً للتو، والابن الذي كبر سريعاً حتى صار أخاً لوالده، لا ابنه البكر فقط.

قبل الوصول إلى وجهتهما، تجاور السيارة شجرة تين، يترجل الابن من السيارة، يقطف بضعة حبات تين، ويضعها قرب منام أبيه، لوهلة يشرد سامر محمد إسماعيل، في “رب الأيائل يا أبي” قبل أن يسقطه من شاهق شروده، صوت صديقه الذي ينتظره ولفيف من الأهل والأصدقاء، يعزيه بوالده، وها هو يصعد طريق “وادي العيون”، متجهاً إلى قرية “المرحة” برفقة أبيه للمرة الأخيرة معاً، كما أوصاه صامتاً طوال حياته.

قبل ذلك اليوم بقرابة الـ40 عاماً، ولد الكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل، في واحدة من غرف بيت عربي في الميدان، تدلت أغصان شجرة كباد فوق بابها ونافذتها، وبين يوم مولده، وبين تلك الرحلة الجنائزية، ترددت عدة حيوات عاشها بطريقة ما معاً.

حياة نابضة في حي الميدان، شكلت علاقته الحسية بفن العمارة والتشكيل، وحياة صوفية المزاج في “المرحة” تركت أثرها الجمالي في أعماقه، وحياة ثالثة هي الحياة التي عاشها بل صرفها في الفنون، التي خاض في بعضها، بعد أن اختبر معظمها، لكن “الهوى” الذي خطفه، كان من خشبة المسرح، المكان الذي ضمه سامر إسماعيل إلى عالمه الخاص، وفيه بدأ اللعب والضحك والجد.

على مسرح “قرطاج” الشهير، وفي واحدة من ليالي مهرجان قرطاج المسرحي 2018، تم تكريم كاتب ومخرج العرض المسرحي السوري “تصحيح ألوان”-المسرح القومي-2017-، العرض الذي كتب عنه في الصحافة التونسية، بأن المسرح السوري، الذي زادت أوضاع الحرب وضعه تردياً، بخير، شهادة كبيرة من قرطاج، سبقتها شهادة مسرحية من دار الأوبرا في مصر، وشهادات أخرى لا تقل أهمية في المسرح والسينما، بدأ صاحب “متسول الضوء” -ديوانه الشعري الأول الصادر عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 -المران القاسي على بلوغها، منذ عام 1996، عندما قدم عرضه المسرحي الأول “ضحك وجد ولعب وحب” لم يتنازل فيه كاتب ومخرج “ليلي داخلي”-المسرح القومي 2013- عن خياره وشرطه الإبداعي، رغم الظروف القاسية فعلاً التي أنجز فيها، الأمر الذي انسحب على باقي نتاجه المسرحي، وهذا ما جعله من أهم مخرجي وكتاب المسرح السوري خلال سنوات الحرب.

مسرح سامر محمد إسماعيل، كقصائده، يعتني بالمكان، يؤسس الحكاية وفق مزاجها المكاني، يرسم حركة شخصياته على الخشبة، وفق تصوره للمكان، وفهمه لطبيعة الفضاء المسرحي، إنها شخصيات من المجتمع المحلي، تنعكس مناخات قسوة الواقع على خياراتها، وتدفعها نحو الانفلات من كل قيد وشرط، كما أنها شخصيات ينتجها المكان أيضا، الذي يصبح جزء من وعيها، ولا وعيها بالضرورة.

مؤخراً تُرجم نص عرضه المسرحي “كاستينغ”-المسرح القومي 2022-إلى اللغة الفرنسية، وهو قيد التحضير للعرض، و”كاستينغ” هو أخر عروض إسماعيل المسرحية حتى الأن، ويعتبر نقلة حقيقية في المسرح السوري، بما يخص طبيعة الحكاية، وشكل تقديمها، الذي يشتغل عليه بحرفية نساج، ليكون هو المضمون.

الفتى الذي تذوق من يد أمه “مربى الكباد” لأول مرة، في بيت حلمه الأول، يرتدي روحه الثانية، في حياته الثانية، وها هو يرفع نخب الشعر، برفقة طلال حيدر، جوزف حرب، في أمسية شعرية جمعتهم في بيروت، المدينة التي يصبح فيها شاعراً، حتى لو كان يقدم مسرحاً، أو مسافراً يتخذها محطة سفر، فترميه بشواظها ويصبح شاعراً هائماً فيها على وجه كلماته.

في ديوانه الشعري الثاني “أطلس لأسمائك الحسنى” الصادر عام 2015، يورط سامر محمد إسماعيل نصوصه الكثيفة، بالأمكنة الدمشقية، التي تحضر بكثافة في تلك النصوص، ليس بوصفها المكاني القائم، بل من خلال تقطيره روحها، كما لامسته وكما قدمت له نفسها، وإذا أراد القارئ تقصي خطاه في تلك النصوص، لعرف منها في أي مقهى بجلس، ومتى كان في مسرح القباني آخر مرة، وكيف شاهد وحيدا في سينما الكندي، فيلماً سينمائياً، وهكذا تصبح المجموعة الشعرية، دليلاً شعرياً لا سياحياً، فيه عناوين الأمكنة والمطارح، كتبت لكنبحبر الشعر.