“قوس قزح” بألوان الحياة
سلوى عباس
رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على العرض الأول لمسلسل “قوس قزح” الذي يُعرض الآن على إحدى قنواتنا، إلا أنه بقي راهنياً وحاضراً في وجدان المتلقي أكثر من أي مسلسل آخر، لأن أحداثه تتناول عبر حلقات متصلة منفصلة تفاصيل الحياة اليومية لأسرة سورية من الطبقة الوسطى، هذه الطبقة التي تلاشت الآن في زحمة الحياة ومتطلباتها الموجعة، وما تعانيه هذه الأسرة ينطبق على كلّ الأسر السورية والقضايا التي تؤرّقها حتى الآن، فالزمن موغل بقسوته وأوجاعه التي تثقل كاهل جميع الأسر من أصحاب الدخل المحدود.
من الحلقات التي لفتتني وتوقفت عندها حلقة “ذكريات” التي يجسّد شخصيتها الرئيسية، أبو سعيد، الفنان سليم صبري. وأبو سعيد مثل كلّ الآباء اعتاد أن يخرج إلى عمله صباحاً ويعود إلى أسرته بعد أن ينهي وظيفته، لكن هذا اليوم كان مختلفاً بملامحه وألوانه عما سبقه من أيام، فإثر اتصال هاتفي يتلقاه يخرج من عمله متجهاً إلى المدينة التي شكلت حلمه الأول، وفي هذه المدينة يقصد إحدى المقابر ويجلس أمام قبر طريّ التراب يضيء الشموع وينثر الورود، وعلى ضوء القمر يناجي ذكرياته مع حبه الأول الذي يحتضنه التراب، ويبقى مع هذه الذكريات حتى يشرق الصباح فيغادر المقبرة إلى إحدى المقاهي المطلّة على البحر، ويستمع إلى أغنية أم كلثوم “ذكريات” ليبحر مع خياله إلى أيام حكم عليه القدر أن يتخلّى عن حلمه ليرسم طيوف حلم آخر كاستمرار لوجوده.
أمام هذا الواقع المؤلم لم يتذكر أبو سعيد أن أسرته التي تركها دون أن يخبرها بسفره، ودون أن تعلم أين هو، ستنشغل عليه وسيقلقها غيابه، فيبادر للاتصال بزوجته ويخبرها أنه بخير وبعودته القريبة، لكنه قبل أن يذهب إلى بيته قصد منزل ولده الأصغر ليرمي في أحضانه أثقال حزنه، لكن ولده الذي أربكته حالة والده وأدهشته مفاجأة قدومه إليه بعد أن قضى مع إخوته يوماً مثقلاً بالخوف والبحث عن أبيهم، وبين اللهفة والخوف والفرح بعودة والده بادره بالسؤال عن غيابه وأين كان؟ فيجيب أبو سعيد ببراءة الأطفال: ماتت سعاد!!. هذه الإجابة أذهلت الابن وألحت عليه لمعرفة تفاصيل أكثر، فأخذ يستفسر من أبيه الذي راح يسرد لابنه قصته مع فتاة حبه الأول، هذه الفتاة التي زرعت بذور الحب في قلبه وسقتها بماء الوداد، فأنبتت عالماً مزهراً بالحب والأمل، هذا الحب الذي لم تسمح ظروف الحياة باستمراره، فتحوّل إلى وعد قطعه العاشقان على نفسيهما أنه عندما يغادر أحدهما الحياة يعيش الآخر لحظة وفاء لهذا الحب بأن يسهر على قبر حبيبه طوال الليل، يضيء الشموع وينثر الورود حتى بزوغ الفجر، هذه الأمنية التي لم يستطيعا تحقيقها في الحياة، فهل من لحظة يعيشانها في عالمين مختلفين، حيث تنفلت الروح من أسرها ويحلق الحبيبان في ملكوت حلم مضى عليه أكثر من ربع قرن، ولم تستطع الحياة بكل أعبائها أن تلغيه، بل إن هذا الحلم اتسع ليتجسّد لدى أبي سعيد في أسرة يجمع الحب والحنان بين أفرادها، وبعد هذه الحادثة أصبح أبو سعيد يحسب أيامه بعدد الأيام التي غادرت فيها حبيبته الأولى الحياة.
هذه حال “أبو سعيد”، أما نحن فكم نحمل في دواخلنا من وفاء لأنفسنا وقيمنا ومبادئنا التي يفترض أنها تشكّل محور وجودنا، هذا الوفاء الذي نفتقد لوجوده في زحمة الحياة المتسارعة في أحداثها، فهل من عودة إلى عالم حالم يحصّنه الوفاء بكل تجلياته، لعلنا نستعيد بعضاً من ملامحنا التي فقدناها في زمننا الموحش؟!