ذاكرة
عبد الكريم النّاعم
فور جلوس صديقي بادر بالكلام، وكأنّه كان ينتظر فرصة للبوح وقال: “البارحة قبل النّوم، توقّفتُ عند الذاكرة البشريّة، وأنا أعتقد أنّ آليّة هذه الذاكرة واحدة عند بني الإنسان، وإن اختلفت في التفاصيل، وتساءلتُ كيف تُداهمنا ذكريات لم نستدعها، وتأخذ حرّيتها في التقلّب، وحين نريد التخلّص منها فقد لا تستجيب، حتى لكأنّها لا تخصّك، وقد تفاجئك بما لا ترتاح له من أحداث أكل الدهر عليها وشرب، وهي محتفظة بها، وتتمنّى لو أنّ لك قدرة على شطبها بحيث تمّحي فلا تعود، فهل يمرّ معك مثل هذا”؟!!.
قلت: “ليس أنا وحدي مَن مرّ بهذا، بل كلّ بشريّ يعرف ما ذكرت، وبحسب تقديري فإنّ أنقى البشر سلوكاً قد مرّت به لحظات يتمنّى لو لم تكن، ولكن بدرجات، فليست ذاكرة مَن كان حريصاً على النقاء كذاكرة مَن تلوّث من رأسه حتى أخمص قدميه، وأظنّ أنّني خلال قراءاتي قد قرأتُ ما يوحي بأنّ هذا التذكّر يمكن أن يدخل في باب التمحيص أو العقوبة”.
قاطعني: “أعتذر عن المقاطعة، وأسأل هل لاحظتَ مدى السرعة الهائلة التي تنتقل بها من حدَث إلى آخر”.
قلت: “مَن يعاني من أمر، على المستوى الذي ذكرتَ لا بدّ له من ملاحظة ذلك، ومن منظور التشابهات والتشابكات الموجودة في الكون، من الذرّة كما يقولون إلى المجرّة، فقد خطر لي خاطر أن السرعة التي تتحرّك فيها الذاكرة، هي بظنّي بسرعة الضوء في انتقاله، وهي بحسب نظرية أينشتاين 20.000 كم في الثانية، وهذا يلفت الانتباه إلى التدقيق في خصائص ما أُودِع في الكائنات، والخالق لا يخلق شيئاً عبثاً، فما يُقذف في الذاكرة إمّا أن يكون مُستدعى من المتذكِّر، وإمَا أن ينقذف من تلك المناطق البعيدة الأغوار من الخفاء إلى الظهور، وما دام موجوداً فلا بدّ أنّ له شأناً، أو وظيفة ما، يمكن لو دقّقنا أن نستجلي بعض أهدافها، وأنت إذا دقّقتَ يا صديقي بحواسنا الظاهرة والباطنة فسوف تقف مندهشاً، الأمر الذي يدعو للتوقّف والتساؤل،.. وأزيدك على ما ذكرت، أنني عانيتُ من هذا ما دفعني لكتابة ومضة شعرية قلتُ فيها:
لَوْ أستطيعُ مَحْوَ تلكَ الذاكرهْ
محوتُها
لكي أريحَ القلبَ من عُواء تلك القاطرهْ”..
قال: “ألا يُدهشك أنّ تفصيلات حياتك، وحياة مَن حولك، بل وحيوات الروايات التي قرأتها محفوظة في هذا الدّماغ”؟.
قلت: “أنظر إلى الكمبيوتر وكم يسع من المعلومات، هذا وهو من صنع البشر، فكيف بجهاز هو خلقة ربّ العالمين”!.
قال: “هل ترى أنّ ثمة ذواكر لغير الإنسان، أعني الحيوان والنّبات”؟.
قلت: “الذي نعرفه بحكم التجربة أنّ للحيوان ذاكرة ما، فالأنعام جميعاً تعود إلى بيوت أصحابها حين يعود بها الراعي مساء، والطيور تعود إلى أوْكانها، وإلى الكوّة التي تقيم فيها، أمّا النباتات فتقول بعض دراسات العلماء المهتمّين بهذا الشأن فإنّ لها ذاكرة، بل ويقولون إنّ أشجاراً عرفت كيف تُقطَع الأشجار المجاورة تنكمش بقدر ما، حين يدخل حطّاب يحمل البلطة، ويُقال إنّ بعض نباتات البيت تمرض بمرض صاحبه الذي يسقيه، وينتعش بانتعاشه، وثمّة تجارب تؤكّد ما ذكرناه”.
قال: “كلّنا، فيما أعتقد مرّ بتجربة عجزه عن استحضار اسم، يكاد يعرفه ولا يعرفه، فيقول ها هو على رأس لساني، وقد يعجز، وفجأة في لحظة ما تقذف به الذاكرة كأجلى ما يكون”.
قلت: “ذلك من أسرار الذاكرة”.
قاطعني: “هذا يعيدنا إلى الذاكرة البشريّة المدهشة”.
قلت: “نعم، وهذا يستحضر مقولة: إذا أردتَ أن تستعبد شعباً فامسحْ ذاكرته..”.
aaalnaem@gmail.com