الفنان غسان صباغ يموج بين رهافة الحياة ومحاكاة الطبيعة
فيصل خرتش
استطاعت لوحات غسان صباغ أن تأخذ لها مكانة في الوسط التشكيلي السوري، وأبدى انحيازه إلى التيار الواقعي منذ أن كان طالباَ في مركز الفنون التشكيلية في حماه، وقد حصل على الجائزة الأولى في التصوير الزيتي عام 1966 الذي أقامته وزارة الثقافة.
ولد الفنان في مدينة حماه عام 1944، وأرسل إلى الاتحاد السوفييتي، في منحة لدراسة الفنون الجميلة بمدينة ليننغراد (بطرس بورغ) فتعرَف على الأساليب الواعية التي كانت سائدة في روسيا، وتعتبر لوحة (رجال المقاومة) نموذجاَ للواقعية وقد تقدم بها لمشروع تخرَجهودأب على دراستها طيلة ست سنوات، حين عاد في عام 1972 عمل مدرساَ للرسم في حلب، وكان يتجوَل في الأحياء الشعبية وأسواقها يحمل معه حقيبة صغيرة تحتوي على ألوان زيتية، يختزل فيها بعض المفردات التي يبصرها لتكون نواة لأعمال فنية يعكف على إنجازها في مرسمه، وكثيراَ ماكان يخرج بصحبة ألوانه إلى الطبيعة في ريف حلب وحماه ليصور بالألوان الزيتية أو المائية مشاهد من الطبيعة، حين يعود بها إلى مرسمه لتكون أكبر حجماً وأكثر نضوجاَ، وقد أكد الفنان أن التجديد لا يكون في الاتجاهات الحداثية وحسب، بل يمكن أن يظهر في الاتجاهات الواقعية إذا ما تهيَأت لها الروح المبدعة والخبرة الجيدة والرهافة المناسبة.
استمرت تجربته في نضوجها ومساهمتها في المعارض، حتى غدت واحدة من أبرز التجارب الواقعية في التشكيل السوري، ويمكننا أن نتابع عدَة موضوعات عالجها الفنان في معارضه، وكان أبرزها: الحي الشعبي، ومشاهد الحياة الريفية والطبيعة، بالإضافة إلى الصور الشخصية، وبعض الموضوعات ذات الطابع الإنساني والقومي.
استأثرتصورة الحي الشعبي باهتمام الفنان لأنه يشكل له المادة الأكثر وفرةلارتباطها بطبيعة عمله، وهو في اعتقاده يسهم في استكمال الصورة الواقعية والمحلية، وهذه المفردات تمنح اللوحة حيوية من خلال اللمسات الرشيقة والومضات اللونية التي توحي بها دون أن تسجلها بملامح جديدة، لقد استطاع أن يخرج اللوحة من مدار التسجيلية التقليدية ويضعها في مضمار الواقعية الانطباعية الموحية التي تلجأ إلى التلميح بمفردات الشكل لتصرح به دفعة واحدة وتدفعه إلى عين المشاهد وقد بدا متكاملاَ غنياَ بعبق الحياة.
إنَ صياغة الشكل عنده تبدأ بلمسات لونية بسيطة ثمً تكسوها لمسات أكثر كثافة، متوخية تأثيرات ضوء الشمس وانعكاساتها على ما يحيط بها، وتميل معظم الألوان إلى الحيادية الهادئة باستثناء تلك المساحات التي تسطع تحت الضوء، فتبدو أكثر حرارة وضياء، فاللوحة عنده تقوم على التوازن ما بين الحار والبارد والقاتم والمشرق، وهي عنده تعتبر وثيقة هامة لمعالمه الآخذة بالاندثار، وبذلك باتت اللوحات تحمل قيماَ توثيقية إلى جانب القيم الفنية.
وقد استحوذ الريف على اهتمام الفنان وبيوته ذات القبب الطينية فراح يصورها في أحضان الخضرة التي تظللها، والأرض المفلوحة وأشجار الكرمة والزيتون والفستق الحلبي.
ثمَ يرسم الفلاحين مع خيولهم ومواشيهم في الحقول، ويرسم الفلاحات بأزيائهن الملونة وهنً يخطرن باستحياء من خلال لمسات رشيقة يضفي عليها اللون بهجة لطيفة، ويبدو الفنان فيها أكثر تحرراَ من قيود الواقعية المدرسية.
وتشكل الصورة والموضوعات الإنسانية حيَزاَ هاما في إنتاجه، إنه يعكس الملامح الشخصية بدقة متناهية، وتعكس القيم الروحية التي تمثلها الشخصية، إنه يحاول انتقاء الوجوه ذات القيم التعبيرية ويتناولها بكثير من الاهتمام، ويغني الصورة بمهارته التشكيلية وخبراته الفنية، وهو يختار الوضعيات التي تكشف ملامح الوجه، كما يتقن اختيار النور المناسب، ويرى أن وجوه الأطفال أكثر صعوبة في الرسم، لأنها أقرب إلى التسطيح ولا يوجد ما يميزها، ولذلك نراه يحفل بالوجوه ذات القيم التشكيلية الغنية التي تبوح بالقيم الروحية العالية، المتغضنة والحافلة بالتجاعيد أو التي تميل إلى اللون الغامق (لوحة الفتاة الصومالية).
أمَا اللوحات التي فيها تجمع بشري (سوق الجمعة ـ باب أنطاكية) فهي تفصح عن مهارة الفنان في تصوير هذا التجمع البشري في صيغة حيوية، فهي تمور بالحركة، يضفي عليها الفنان لمسات لونية ترسم الشكل وتعطيه ملامحه الأساسية، وهناك الومضات اللونية التي تتوزع في حنايا اللوحة لتعطيها نبضاَ حيَاَ وتقربها من الصيغ التجريدية، كما يشكل موضوع الطبيعة الصامتة حيزاَ محدوداَ من تجربة الفنان تقتصر عل بعض الألوان البسيطة، يعتمد في تكوينها على خبراته، والفنان يظهر عدم حاجته إلى التجارب الحداثية التي تبعده عن الاتجاه الواقعي، ولا سيما أنَ الواقع يمدهبمادة تغنيه عن اللجوء إلى مخيلته التي هي من مكوَنات الواقع.
“أنا لست بحاجة لافتعال أسلوب أو طريقة للرسم ما دام الواقع يمدَني بما أحتاجه من متع تصويرية، وأنا لم أحاول أن أجرب الأساليب المستحدثة حتى لا أتخلَى عن قدراتي الإبداعية في ميدان الواقعية”.
ومما يؤسف له ألا يقتدي الفنانون الشبان بمثل هذا الفنان الذي يمتلك هذه المقدرة في التصوير الواقعي، منصرفين إلى الفنون المحدثة، دون أن تكون لهم الخبرة في هذا الفن الذي يسهم في تكوين القاعدة لكل إنتاج فني طموح.