مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. محمود السيوفي.. حياة بين حبات اللوز وغبار السكر

أماني فروج

وسط سوق البزورية، وعلى بعد خطوات من مئذنة “الشحم”، تعبق رائحة مزيج من الياسمين الدمشقي مع نكهة اللوز المحمص، غافياً في محلول السكر، داخل متجر صغير يختبئ بين حارات دمشق وأزقتها.

الرائحة التي تقود إلى نكهة عالقة ذاكرة السوريين، وشكل لقطعة حلو، على مدى عقود بقيت جسراً يربطهم ببساطة أيام الزمن الجميل، فما تلبث أن تطأ قدم المرء حارات الشام القديمة ليمر شريط الماضي أمام حوانيت البهجة، التي يتفنن الباعة باختيار ألوانها، وترتيبها ببراعة لتجذب أنظار المارة، وتحظى باهتمام الأطفال والكبار، لاقتناء حفنة من ذكرياتهم على هيئة حبة “ملبس”.

بالعودة إلى السوق المقبب، حيث الرائحة ترسم الخطى لا شعورياً، نحو حانوت صغير، يمكن أن نسميه من جهة المنظر بـ: “حانوت السعادة” ألوان مبهجة، روائح تجعل القلب محمولاً بخفة لا توصف، ووسط هذا يجلس العم محمود السيوفي “أبو هيثم” الرجل الذي عشق طفلاً السكاكر، فقرر أن يصبح رفيقها دائماً، وعن هذا يخبرنا: ” كنت بعمر الست سنوات، عندما كنت أنهي يومي الدراسي، وأعود سريعاً للعمل ما بين حبات اللوز وغبار السكر، وبقي هذا حالي، حتى هذه اللحظات، رغم أنني درست في كلية الهندسة الزراعية”.

سكاكر الأطفال الدمشقيين القديمة، مازالت صناعة قائمة بحد ذاتها، تغيرت أسمائها وألوانها وأشكالها عبر الزمن، إلا أن أزقة دمشق القديمة، التي مازالت تنبض بالحياة والعراقة في آن، تشهد على استمرار صناعة الملبس، في ورش صغيرة، تتربع على منعطفات سوق البزورية، ومأذنة الشحم وباب السريجة.

يحكي أبو هيثم عن علاقته بالمكان، فكل ما في ذاكرته، له علاقة بشكل ما بهذا الحانوت الصغير، الذي ورثه عن والده، يشير المهندس محمود، إلى إحدى الصور، المحاطة بأنواع الملبس والسكاكر، ليدلنا على والده “أبو عمر” برفقة رفاقه من صانعي السكر، في زمن مضى، ومن بينهم شيخ الكار “توفيق القباني” والد الشاعر الكبير نزار، وسرد في قوله عن تاريخ المصنع الذي يعود ترخيصه لعام 1922 حسب ما ورد في سجلات محافظات دمشق، وليصبح إرثاً عائلياً جيل بعد جيل، وعن هذا يقول: “لا أعرف عدد أبناء وأحفاد العائلة، الذين يعملون داخل هذا المصنع، علماً أنهم يتابعون مسيرتهم الدراسية،إلا أن حبهم لهذه الصنعة، مهد الطريق أمامهم إلى هذا المكان”.

لم يقتصر عمل أبو هيثم في السوق المحلية، إنما حمل صنعته هذه في جعبته كذهب ينثر أينما حل، فكان أول من صنّع، بعض أصناف السكاكر والشوكولا، في السعودية والأردن، إلا أن مشاركة أبناء مجتمعه تحمل نكهة مميزة، لاسيما حين يقاسمونهم أفراحهم وأحزانهم، وأردف ارتبطت حبات الملبس التي توضع في مناديل على هيئة “صرر”، بعيد المولد النبوي الشريف، وباتت خالدة في احتفالات هذا اليوم، إذ ترمز إلى الولادة الجديدة المتمثلة في مولد النبي الكريم.

في مدينة كدمشق، لن تكون صناعياً بغض النظر عن حجم صناعتك، ما لم يكن لديك مكاناً حقيقياً للمشاركة مع الناس، هنا لا يوجد ما يسمى “سر المصلحة” المحصور بالعائلة، كما في بلاد أخرى، بل إن سر كل شيء جميل وحلو، هو مشاركته مع الناس، وعن هذا يقول أبو هيثم فكرة مهمة جداً: “لم يقتصر تعليمنا أسرار هذه الصناعة، على أبناء العائلة وأحفادها فقط، على مدار سنوات عمر المصلحة، مرّ على المصنع، عشرات العمال، الذين تعلموا أسرارها وسافروا خارج القطر، وأسسوا لأعمالهم الخاصة، الأمر الذي يشعرني بالسعادة، ولتبقى ذكرى الملبس الدمشقي تفوح أينما حل السوريين”.

سنوات الحرب الطويلة، أرخت بظلالها الثقيلة على الصناعة في البلاد، ومنها طبعاً صناعة السكاكر، يستعيد السيد محمود بعضاً من تفاصيلها، ثم يحكي لنا عن حادثة وقعت مع والده، الذي قرر الاستمرار في العمل، تحت قصف العدوان الصهيوني عام 1973، وختم حديثه بالقول: ” هذه البلاد مرّ عليها الكثير، مر احتلال العثماني وسفر برلك، حربان عالميتان، وبعدها مر الكثير، لكننا أبناء الحياة، وهذا يجعلنا نقف دائماً بعد كل تعب، فهذا مصيرنا وقدرنا، المرتبط بمصير بلادنا وقدرها الذي نصنعه”.