عارف العارف..!
حسن حميد
أعترفُ بأنني طوّفت طويلاً في معاجم البلدان، والثقافات العالمية، كي أعرف ما كتبه الآخرون، على اختلافهم، عن بلادنا العزيزة فلسطين، من أجل أن أقف على سطر ذهبي، أو جملة ذهبية، تلخّص تاريخها، أو تصفها بما يليق بها، وقد وجدت ما جعل قناعاتي تصير يقيناً، بأنّ البلاد الفلسطينية بلاد عمران وكفى، بلاد عمّرها أهلها ويعمّرونها، وبلاد يدور حولها التاريخ عطِشاً ليشتق دروبه، وليعلي شأن ما يتطلّع إليه من حضارة، وعلوم، وابتكارات، وبلاد يواقفها علم الاجتماع ليرى في مراياه الأساليب، والطرق والرؤى والأنسنة التي عاشها الزمن لكي تصير الحياة الاجتماعية، على اختلاف مستوياتها، دارةَ أمن وسلام وعطاء وخصب، وجهةً تهفو إليها القلوب من أجل حيازة الطمأنينة امتلاءً باليدين، وجهة ًتهفو إليها العقول من أجل حيازة المعرفة والعلوم والمناددة بها، وجهةً تهفو إليها النفوس من أجل أن ترى أرض الله الصغيرة وما تحلّت به من شجر وغدران وينابيع وزهور ودور ودروب وحقول، وأنسنة للجبال والوهاد والأنهار والبحيرات والغابات والصحارى والمغاور والكهوف، وجهةً يهفو إليها السمع من أجل الإنصات الرهيف لحقول القصب التي تعزف للأنهار، على الضفتين، جذباً للماء كي يجري جذلاً ليصير سوراً من حنان وصفو ورهجة ألوان تلفّ البلاد.
بلى، هذا ما تقوله معاجم الدنيا كرواية يقينية عن بلادنا العزيزة فلسطين، قبل مئة سنة بالتمام والكمال، أي قبل التطاول على قدسية الكلام، وقدسية الحقّ، ومصادر التاريخ من قبل المؤرخين الجدد الذين حاولوا اختلاق تاريخ آخر، ورواية أخرى، لا منطق فيه، ولا صوابية لها.
أمدّ هذا السطر الطويل كيما أتحدّث عن المقدسي عارف العارف (1891-1973) الذي عاش حياته الطويلة (82 سنة) من أجل أن يؤكّد ما قالته معاجم الدنيا عن بلاد الله الصغيرة، فلسطين، وكيما تكون كتبه، وما أكثرها، وما أكبر قيمتها، جهةً ومرجعيةً لكل ارتجاف، وتردّد، وتهاون، وخور، وانصياع، وشك، لقد كتب عارف العارف، المؤلفات الكثيرة، والمجلدات المترادفة، من أجل أن يتحدّث عن المكان الفلسطيني بالتفاصيل الدقيقة المسنودة بالتواريخ، والعلامات، والإشارات، والمواضع العمرانية، ولاسيما حين تحدّث في كتابه /المفصل في تاريخ القدس/ ليقول لنا، قولة الأزل، بأنّ من بنى القدس وجعلها زاهية بكل أشكال العمران، على اختلاف صوره، هم الجبابرة الذين حاكوا بأفعالهم، من حيث القوة والمُكنة والصبر، الجبال، فالقدس احتشاد لمجموعة من الجبال والأودية، والغابات والأحراش، بل قيل إنها مكان لاحتشاد الأسرار والمخاوف، فقام الفلسطينيون بإماطة المخاوف والأسرار، وأنسنوا المكان بالاجتماع، والكتب، والأحبار، والرسوم، والموسيقا والبيوت التي غدت مرايا بتطاولها وجمالها وشرفاتها، مثلما غدت كائنات نداهةً تمنح المارين الكثير من البركة والأمان، وشقّت الأيدي الصخور لتصير قنوات ماء عذب يتصاعد في التلال والجبال كيما يصل إلى البيوت، مثلما شقت الصخور لتصير صهاريج لتخزين الماء العذب، وجعلت المغاور والكهوف مخازن للغلال بعدما كانت أعشاشاً للرعب والخوف.
وكتب عارف العارف عن المجتمع وطبقاته، وعن الناس الذين عمّروا الأرض بوجودهم النايف، وعن الناس الذين صاروا إضافات مهمة، وغنى بشرياً، بسبب قدسية الأرض، وما من شبر في أرض فلسطين العزيزة، إلا وله قداسة جهيرة بالمعنى، كتب عن القبائل والعشائر في القرى والأرياف والصحارى، وكتب عن أهل المدن الفلسطينية، وبيّن ميزات الروح البدوية والريفية، وما يقابلها من ميزات جوهرية لأهل الحضر في المدن، والبلدات الكبيرة، وبذلك تقفّى دروب ابن خلدون، عالم الاجتماع الفذ، ليبدي لنا وجوه التقابل والتنافر، ما بين العقلية البدوية الريفية، والعقلية المدنية، وكيف اتحدت العقليتان، في مطابقة مذهلة، حين لفّت المجتمع الفلسطيني، ارتجافة اجتماعية، أبانت خوف المجتمع الفلسطيني من غايات المحتلين وتوجهاتهم منذ مئة سنة وأزيد.
وكتب عارف العارف عن الإسرائيلي الذي اتخذ من القوة ثقافةً وسلوكية، وتعريفاً له كيما يبطش بالفلسطيني الإنسان، وبالفلسطيني التاريخ، وبالفلسطيني العلوم والمعارف والآداب والفنون، أي كتب عارف العارف عن الإسرائيلي الذي سرق كلّ شيء ونسبه إليه، من كلمة صهيون، إلى كلمة سالم، إلى كلمة مدنية من أجل أن يتحدث برواية مختلقة عن مكان وتاريخ وعيش له فوق الأراضي الفلسطينية، عارف العارف عرّى الرواية الإسرائيلية من كلّ ما حاولت أن تتزيا به، ولم يكتف بهذا، فكتب عن الحياة الحقيقية التي يعيشها الإسرائيلي، وهي حياة يعمّها الخوف لأنه سارق، حين تحدث عن السجون الإسرائيلية وما يحدث فيها كيّاً للوعي الفلسطيني، ومحاولة لنسف الرواية الفلسطينية من جهة، وعن الأسرى الفلسطينيين وقوتهم الخارقية في بناء حياة جديدة، وزراعة الأمل، واستنبات الفرح، وتأليف الكتب، وصناعة الموسيقا التي تليق بالفن الفريد.
عارف العارف الذي رحل عام 1973، في مثل هذه الآونة، هو ابن فلسطين الذي مضى وقلبه يدقّ ويومض لكلّ حجر، وشجرة، وتلة، وشرفة، ووليد شغوب، وباب ينشق فجراً لتقول صاحبة البيت السبعينية: صباح الخير.. يا بلادي.
Hasanhamid55@yahoo.com