النحات محمود شاهين عشق الطبيعة فكانت مصدر إلهام له وأيقظت منازع الجمال لديه.
فيصل خرتش
ولد النحات محمود شاهين في مصياف عام 1948 التي تطلَ على سهل الغاب حيث تتكاثر الأودية والشعاب المغمورة بأشجار الكروم والفاكهة، فكانت مصدر إلهام له، إنَه ابن الطبيعة وعاشق لها، متوَحد في ترابها، ويبدو أنها ايقظت لديه منازع الفن والجمال منذ صغره، فنمت عنده منازع الكتابة الأدبية والمطالعة، وعندما أصبح شاباً راح ينشر كتاباته في الصحف السورية واللبنانية، لكن سرعان ما تدفق نهر التشكيل في داخله فاتجه لإنتاج اللوحة الزيتية، فأقام ثلاثة معارض فردية قبل دخوله رحاب الفنون الجميلة.
عندما حصل محمود شاهين على شهادة الثانوية العامة، توجه إلى دمشق، ففيها توجد الجامعة، وفي الجامعة توجد كلية الفنون الجميلة، دخل إليها طالباَ فمدرَساَ ورئيساَ لأحد الأقسام ثمَ عميداَ لها.
وشملت دراسته تاريخ الفن وعلم الجمال وتاريخ الحضارات والأساطير، بالإضافة لفن النحت، فزودته بمعارف شتى في ميدان الفنون، وانعكس ذلك في إنتاجه الفني على مستوى النحت، وفي كتاباته النقدية التي كان يستعرض فيها المعارض التي تقام في دمشق في عدد من الصحف والمجلات السورية، وقد التزم الجانب الواقعي والموضوعي في رصد الساحة التشكيلية.
في عام 1972 تخرَج الفنان في كلية الفنون الجميلة ـ قسم النحت، من جامعة دمشق، وعمل في مجلة جيش الشعب أثناء الخدمة الإلزامية، وكان يكتب في الصحافة السورية، وكانت هذه الكتابات تتسم بالموضوعية والوضوح، ثمَ أوفد إلى ألمانيا الديموقرطية ليتابع تخصصه العالي في مدينة درسدن، وفيها أظهر نشاطاَ واضحاَ في دراساته ومشاريعه التي حظيت بتقدير المشرفين عليه الذين قدروا نشاطه ودأبه في البحث وأشادوا بحساسيته التشكيلية وخصوبة مخيلته وامتلاكه لأدوات التعبير المختلفة.
لقد استطاع الفنان محمود شاهين أن يمتلك عدة عوامل فنية بدءاَ من الواقعية الفنية وحتى التجريد والزخرفة التصويرية، وخلق الموضوعات النحتية التي تشكل أساساً لواقعية كامنة سوف تولد، والحسية المرهفة والتشكيلات والنحت النافر، كلَ ذلك يدل على أنَ الواقعية قادمة، لقد استطاع، ضمن التشكيل المعماري، أن يحقق الأفكار والدراسات لنصب تذكارية وطنية، وكانت دراسته الأكاديمية في درسدن نافذة أطلَ منها على الفن العالمي، وهذا ما برز في مشاريعه هناك، إنها حافلة بتشكيلات بشرية تفصح عن المعاناة الإنسانية.
في عام 1981عاد الفنان إلى سورية، ومعه شهادة الدكتوراه ليعمل في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وحقَق ظهوراً لافتاً في الأوساط الفنية والملتقيات الأدبية، وقد أنجز عدداَ من النصب التذكارية والمنحوتات، قالوا عنه في حينها: “إنَه كتلة في فراغ وفراغ يحيط بكتلة، فيه وبه يتأكد الفراغ ويأخذ قيمته، وهو بالفراغ يتأكد ويتكامل ويتسامى”.
إنه حريص على إنجاز منحوتات ذات مضامين إنسانية واجتماعية، تجسد رغبات الإنسان، وتعتبر المرأة رمز للخصوبة، إنها تعبير عن حبه للأرض، فرآها هضاباً وتلالاً، يفك أسرارها ثمَ يعيد تكوينها مستنداً لخبرته الأكاديمية، والمنحوتة عنده لا تحتمل التفاصيل، إنها كتلة واحدة خالية من الفراغات وتشكل كياناً متماسكاً يواجه الفراغ المحيط به دون أن يدع له فرصة لعبوره من خلال التجاويف، وهذا ما نجده عنده في المنحوتات الآرامية والتدمرية، وهي تضمر الكثير من المعاني الإنسانية، إنَه يسافر في محيط الشكل بإيقاع هادئ ويبتعد عن المسارات الحادة مما يجعل الكتلة مكتفية بذاتها وتحتضن في داخلها المشاعر الكامنة التي تعد بالعطاء.
إنَ السطح لديه يكتسب أهمية تعبيرية وجمالية من خلال اخضاع المادة إلى تضاريس دقيقة تظهر الانفعال الذي أودعه الفنان في عمله مهما كانت طبيعة المادة التي ينجز بها عمله، إنَ شاهين يزاوج بين الإيقاع والكتلة، المدروس والموزون وبين الإيقاع التعبيري الداخلي للوصول إلى درجة من الوعي، والشكل الإنساني ليس سوى امرأة منحوتة ومنطوية على نفسها، يحيط بها الغموض، وهو يدمج تداعيات عوالمه الداخلية والخارجية بعالم منحوتاته التي يمكن أن تعانق إطلالة شوارعنا وحدائقنا والساحات العامة، وهنا تبدو تجربته ذات خصوصية تنبع من صدق مبدعها وموقفه من الفن والحياة، إنه يجمع بين روحانية الشرق وجماليات الغرب، بين ما هو ذاتي وما هو اجتماعي، وهو يصوغ كلَ ذلك بخبرة الأكاديمي وعفوية الفطري، فيتدفق في شخوصه نسغ الحياة.
وكتاباته تؤكد حرصه على الوقوف إلى جانب النتاج الإبداعي، ومعظمها التي تخدم الإنسان، والنقد عنده كذلك مهمة إنسانية تستند إلى الخبرة والمعرفة وتتسلح بالصدق والموضوعية، وبالكثير من الأخلاق ومحبة الإنسان، بإلقاء الضوء على جوانب مجهولة بالنسبة للفنان، يدخل إلى العمل الفني عبر أدوات تعبيره، إنها الأساس بالنسبة للعمل التشكيلي ومن ثمَ إلى المضمون، والثقافة النظرية والبصرية ضرورية للناقد، فعليه إغناء رؤيته باستمرار، ومواكبة الكشوف والإضافات الجديدة المتعلقة بمجال عمله، والنزاهة والصدق وانتفاء المصلحة هي الأساس الذي يجري عليه النقد، فالفنان والناقد يجب أن يخدما العمل الفني ومن ثمَ المتلقي.