“اليمين” أداةٌ أمريكية للإجهاز على أوروبا
تقرير إخباري
دأبت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود على الحدّ من نجاح حليفتها أوروبا وتضييق الخناق عليها لتبقى تابعة لها وسوقاً لتصريف منتجاتها وأداةً لتمرير سياساتها الإمبريالية، وعمدت على تشكيل لوبيات بداخلها لتفكيك وتخريب تلك القارة من الداخل بهدف ممارسة الضغط على الحكومات وإجبارها على انتهاج سياسات غير مدروسة ومدمّرة عبر تحويل الرأسمالية المقيدة إلى الرأسمالية الحديثة التي تتمظهر في “الليبرالية الحديثة” التي جعلت النظام الاقتصادي أكثر تغوّلاً وتوحّشاً ويعاني من أزمة لكونه يخدم الأثرياء ويصفهم بالناجحين، في حين يزيد من بطالة وفقر وتهميش الفقراء ويصفهم بالفاشلين وغير الأكفاء، كما يجتهد هذا النظام في إعاقة النقابات وقوانين التدخل من الدولة ومنع الاحتكار وقمع أية جهة تطالب بحقوق الفئات الضعيفة في المجتمع.
من جهةٍ أخرى عمدت جماعات الضغط الأوروبية إلى انتهاج سياسة فتح الحدود واستقبال المهاجرين دون قيد أو شرط، رغم وجود أزمات اقتصادية متكرّرة، ودون وجود إمكانيات لتأمين العيش الكريم لأولئك، حيث كان يتم حشرهم في الضواحي وبؤر لا تتمتع بالحدّ الأدنى من الخدمات، وبالتالي خلق طبقة اجتماعية عريضة من الجاليات الفقيرة غير القابلة للانخراط في المجتمع الأصيل الذي يتمتع بحقوق ومزايا متفوّقة، وهذا بدا واضحاً وجلياً إبان ما تشهده فرنسا من أزماتٍ واحتجاجات متلاحقة بل أخذ يمتدّ إلى كل دول أوروبا التي تسير على النهج ذاته لجهة نموّ اليمين المتطرّف المحرّض ضدّ المهاجرين ولجهة ازدياد نظرة الاضطهاد وتقسيم المجتمع عنصرياً، والأنكى من ذلك، وخاصةً في فرنسا، أن رموز اليمين المتطرّف ذاتهم اليوم مَن كانوا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي يطالبون بفتح الحدود أمام المهاجرين واتهام كل من يعارضهم حينها بالعنصرية وغيرها من التهم المعلبة لمجرّد إسكات الصوت العقلاني.
اليوم يعمل اليمين المتطرّف عبر أذرعه الخفية على تسخين الشارع الفرنسي من خلال منشورات تتغيّر عناوينها كل عدة دقائق على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم يسخّن المقلب الآخر الذي يصنّف على أنه “جماعة النخبة” أو “الصفوة” ليزيد كراهيتهم ضدّ أبناء الضواحي، ورأينا كيف نجح هذا الاتجاه بجمع أكثر من مليون ومائة ألف يورو للشرطي قاتل “نائل” من خلال استخدام عقد الطبقية والتفوّق ضمن المجتمع الفرنسي.
إن ما يزيد خطورة الأمر أن حلول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته لم ولن تكون اجتماعية أو سياسية، بل مجرّد مقاربات أمنية يمكن أن تبرّد الساحة قليلاً، لكنها لم ولن تحدّ من حركة الاحتجاجات والإضرابات التي ستتواصل في ظل فشل حكومته في حل مشكلات غلاء المعيشة، وضعف خدمات الضمان الصحي والاجتماعي، والاستهتار بحقوق النقابات العمالية.
أوروبا الآن أمام مأزق كبير ولن يكون حله إلا عبر وضع برنامج لتنظيم موضوع الهجرة، ومنح المهاجر حق المساواة والعيش الكريم، لأن عدم اتباع ذلك سيرسخ وجود طبقات تعيش خارج القانون وربما تنتهج الجريمة والتخريب وسيلة لتأمين عيشها وإثبات نفسها، وغالباً لن يتم التوصّل إلى حلول في الأفق المنظور، والأسوأ سيحدث لأن أوروبا بكل بساطة أصبحت القارة العجوز المرتهنة للسياسة الأمريكية، ولم تعُد القارة الحلم كما كان يُظنّ سابقاً.
بشار محي الدين المحمد