انتفاضة “بؤساء” المجتمع الفرنسي
البعث الأسبوعية- هيفاء علي
عام بعد عام، تزداد الأرقام في قائمة الأشخاص الذين قتلوا على يد عناصر الشرطة الفرنسية بدعوى تطبيق القانون، حيث قتلت الشرطة أربعة أضعاف عدد الأشخاص الذين رفضوا الامتثال خلال خمس سنوات مقارنة بالعشرين عاماً الماضية.
“لا سلام دون عدل” هو الشعار الذي ردده المشاركون في الاحتجاجات المتضامنة مع قضية المراهق ناهل، الذي أطلق شرطي مرور عليه النار من مسافة سنتيمترات قليلة وأرداه قتيلاً. يلخص هذا الشعار روح الانتفاضة الجارية حالياً في فرنسا، وهو ترجمة لشعور باختلال كبير في ميزان العدالة الاجتماعية، الذي أصبح عابراً لأطياف المجتمع الفرنسي بأغلبيتها في ظل حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي تفاقم بعد انتخابه لولاية ثانية في ربيع 2022.
تختلف انتفاضة صيف 2023 في فرنسا عن انتفاضة الضواحي في 2005 التي جرت بُعيد مقتل المراهقين زياد وبونا، بسبب ملاحقة الشرطة لهما. الانتفاضة الجارية حالياً ليست انتفاضة يتيمة سياسياً، أو معزولة عن باقي فئات المجتمع الفرنسي، أي كما كان الوضع سنة 2005. فمن جهة أعلنت صراحة أحزاب اليسار، كحزب “فرنسا الأبية” بقيادة جان لوك ميلانشون، وحزب “الخضر”، وحتى الحزب “الاشتراكي”، تضامنها مع قضية ناهل، ومنهم من رفض أن يدعوا مناصريه للتهدئة.
اللافت في الأمر هو التضامن على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل شريحة الشباب الفرنسي من خارج الضواحي، لا سيما طلاب الثانويات والجامعات، مع قضية مقتل ناهل، بالإضافة إلى مشاركتهم في الاحتجاجات والمظاهرات، لا سيما المسائية منها، حتى في أحياء برجوازية محسوبة تقليدياً على اليمين، كالاعتصام الذي جرى مساء الجمعة 30 حزيران على مشارف ساحة كونكورد، والمسيرات في شارع ريفولي التجاري في قلب العاصمة الفرنسية باريس، الذي يقع فيه متحف اللوفر والفنادق الفخمة.
وعليه، تأتي هذه الانتفاضة اليوم في جو من الغليان الاجتماعي، كتتويج لشهور من الاحتجاجات المعيشية ضد “إصلاحات” فرضها ماكرون، لا سيما فيما يتعلق بنظام التقاعد، وفي ظل ضائقة معيشية ناتجة عن تضخم الأسعار، لا سيما أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة، وذلك بعيد أزمة كورونا ودعم الحرب الدائرة في أوكرانيا.
إنّ ما يميز الانتفاضة الحالية عن تلك التي سبقتها هو أنها تشكل نقطة تلاقٍ بين “بؤساء” في المجتمع الفرنسي، وتقاطع بين نضالات اجتماعية وسياسية مختلفة، منها ضد عنف الشرطة، ومنها ضد العنصرية والإسلاموفوبيا، وأغلبها معيشية، وكلها تدور حول فكرة أساسية قوامها “كفى عجرفة في التعاطي السياسي والأمني”.
أما توسّع الغضب على عنف الشرطة الفرنسية، فمرده إلى أنه بين 2005 و2023 لم يعد ضحايا عنف الشرطة الفرنسية فقط من سكان الضواحي، وهم غالباً من المهاجرين أو من أبنائهم من الأجيال اللاحقة المولودين في فرنسا، حيث اتضح من عام 2005 إلى عام 2023، الفشل في معالجة أوضاع الأحياء الشعبية والهامشية التي تكشف عن فشل نموذج الاندماج لمواطنين من أصول أجنبية، أو عن اعتبار الجيل الفرنسي الجديد الناشئ في هذه الأماكن بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
في الولاية الأولى لماكرون، اختبر المشاركون في احتجاجات السترات الصفراء أيضاً، وهم كانوا غالباً من خارج بيئة الضواحي التي يسكنها المهاجرون، عنف الشرطة الفرنسية، لا سيما ” الافراط في استخدام القوة” ، وقد جعلت المواجهات التي حصلت بين الشرطة الفرنسية والسترات الصفراء، أو بعد ذلك بين الشرطة من جهة، والمحتجين على تعديل نظام التقاعد، أو مؤخراً الناشطين البيئيين من جهة أخرى، أطيافاً واسعة من المجتمع الفرنسي، لا سيما من البيئات الاجتماعية الموجودة على هامش مراكز المدن، وليس فقط بيئة ضواحي المهاجرين. وهي جميعها تدرك مدى العنف الممارس من قبل الشرطة وخطورته، فبعد أن كان استشعار مخاطر عنف الشرطة حكراً على بيئة ضواحي المهاجرين، توسع إدراك هذه المخاطر ليشمل تدريجياً بيئات أخرى أكثر انتشاراً ضمن المجتمع الفرنسي.
وقد كان تعديل المادة 1435 من قانون الأمن الداخلي في شباط 2017، في أواخر عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، لجهة توسيع الحالات التي يمكن للشرطي أن يستعمل فيها سلاحه، قد مهّد لمغالاة بعض عناصر وضباط الشرطة الفرنسية في استعمال العنف.
عجرفة ماكرون
لم يستخلص ماكرون العِبَر من الدرس الذي لقّنه إياه الناخب الفرنسي في ربيع 2022 بوجوب التواضع في ممارسته السياسية، وهو درس تجسّد عبر حرمان ماكرون من الأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية بعيد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية، وذلك في سابقة منذ التعديل الدستوري الذي جرى سنة 2000، والذي قصّر مدة ولاية رئيس الجمهورية من سبع إلى خمس سنوات، أي إلى نفس مدة ولاية أعضاء الجمعية الوطنية.
لقد كابر ماكرون على ضعف شعبيته الناتج عن إعادة انتخابه كأهون الشرين، قطع الطريق على وصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وبنسبة عدم مشاركة قياسية (منذ خمسين عاماً) في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية. عاكس ماكرون الإرادة الشعبية، وبدل أن يجد وسائل لتمويل نظام التقاعد في سبيل الحفاظ على المكتسبات التي يعطيها للعمال، في حين أنّه كان ألغى في 2018 الضريبة على الأغنياء التي كانت تدر مداخيل معتبرة على مالية الدولة، ففرض تعديل نظام التقاعد عبر اللجوء للمادة 49ـ 3 من الدستور، ضارباً بعرض الحائط وعوده بنقاش وتصويت ديمقراطي بالبرلمان، محتقراً كل الغضب الشعبي الذي تم التعبير عنه بإضرابات واحتجاجات ضخمة في الشهور القليلة الماضية، مكتفياً بقانونية ما فعله، ولو على حساب المشروعية الشعبية. كانت النتيجة انفجار الانتفاضة، أما الشرارة فكانت مقتل الشاب ناهل على يد شرطي.
أما المستفيد الأول مما يجري حالياً في فرنسا فهو اليمين المتطرف، لا سيما مارين لوبان، وإيريك زيمور اللذان لا يبرعان غالباً إلا في الاستثمار العنصري في الأزمات الاجتماعية، لا سيما الاستثمار في القلق المشروع الناتج عن العنف المضاد، أي عن أعمال الشغب المرافقة للانتفاضة الجارية حالياً في المدن الفرنسية، وذلك لرفد خطاب الفوبيا من المهاجرين، وخطاب صراع الحضارات، كل ذلك قبل أشهر قليلة من نقاشات حامية من المتوقع أن تشهدها الجمعية الوطنية الفرنسية حول مشروع قانون جديد متعلق بالهجرة واللجوء.