عماد الدين إبراهيم يعلن اكتمال القمر
رائد خليل
مهما تكنْ دورة الاكتمال طويلة، يبقَ القمر واحداً في تجلياته وانعكاسه ووقعه النفسي في تشكيل ذائقة تعيد ألق اللحظة بدلالاتها وحمولاتها السردية التي لا تخلو من تجذير وعيٍّ حكائي، يأخذنا إلى أقصى درجات الوقوف على ناصية التأمل لواقع يسرح في سهوب اللحظة..(حتى القمر الذي كان في وسط السماء غاب، الأرض تتشقق تحت قدمي، رجلاي تغوصان في أخدود ظهر فجأة أمامي، يمتد إلى ما لا نهاية، يتوسع ويتمدد مبتلعاً كل شيء..كل شيء..)
هنا، يؤكد القاص والشاعر عماد الدين إبراهيم اكتمال القمر ويمسرح تصوره في عمق وإشارات موحية مسربلة بالتخيّل، ويتحكّم بمفردات مسروداته، ويلبسها تعبيراً جمالياً مزركشاً بالزمكان.. وتبدو صرخته الأولى جليّة، عندما وقف يخاطب قلقة وهواجسه (إلى الأقمار التي لم تكتمل بعد، قبل أن يأخذها الأفول).. ومن ندائه الموحي إلى الخواطر التي غمرته وحثته على محاولة استعادة الزمن.
حفلت حكايات الكاتب “إبراهيم” بالوصف والبحث والتقصي عن نفسه التي يغيب عنها تارة ثم يعود ليصنع إشكالية تعيد ترتيب الذات من خلال مساهمته الفعالة في بناء الحكائية، واثقاً من أدواته التعبيرية التي حولها إلى برقيات مكتوبة بحبر مهووس بالتأملات الملونة.
تُرى أي صورة أغمض عليها الكاتب عيناه؟ ولماذا أراد هذه الإغفاءة المؤقتة؟ وهو-أي الكاتب- في حالةِ مدّ جسورٍ لتأكيد اللحظة بالتكثيف والتلميح المخبوء أحياناً بمشاهد محبوكة ومزهوة طوّعها ليشعل بها برودة الموقف أحياناً، ولكي يستجيب لصرخات المخاض في أعلى قلق.
في مدار شخصياته، تبقى الأنا هي الظاهرة، وهي المحدّثة الكبرى..و مع حضور الأفعال الماضية، مازالت الصورة بين يديه حاضرة، يتأملها بشعور بين الصحو والغائم أحياناً..ويمنح حلمه متعة التجول في سهوب اليقظة ..شفيفاً قانعاً محتفياً باثني عشر كوكباً.. من اكتمال القمر إلى ليلة الحجاز (خلّفتُ ورائي مدناً تقبع في ليلٍ حالك السواد، كأنه منجم فحم، مدن يصبح فيها ضوء فانوس أشدّ خطورة من وباء الكوليرا في القرون الوسطى….).
يحتفي الكاتب أيضاً في كل مسروداته بأحلامه التي تنطوي بلورة صيغ جديدة تعيد ألق الحكاية بإشراق يتلمس فيها القارئ فيض النور المعشق بالأسرار، وبأدوات تنسج حبكة يهيمن فيها سراج زمنه (أفلا يهدهد الليل النجوم بغنائه..؟)
اعتمد الكاتب عماد الدين إبراهيم أسلوب المتكلم المحدّث، ويبني مفردات اشتغاله على سيكولوجية صرفة لتكون مساهمة في خلق تصورات وآراء لها أبعاد رمزية تسيّج محاور قصصه بمتعة التعبير التي لا تخلو من الشاعرية في مواضع كثيرة.
إذ يحمل الكاتب أدواته ودواته وقلمه وألمه في ثنائيات مكنونة تحمل عنصر المباغتة لقولٍ مغايرٍ قد يقرأ القارئ فيها نفسه، ويرخي أحمال مشقته في رحاب الخواتيم مدهوشاً ومحملاً بحشود تعابير تعكس الصورة وكأنك تقف أمام مرآة حقيقتك ..متوهجاً ومضمّخاً بمناخ فسيفسائي القصِ،إذ تخطفك إلى حيث تريد أن تكون.. ويلخص لنا الكاتب مسيرته ومحطاته من هلال القول إلى بدر السرد حتى الاكتمال الفاعل الشائق..بنكهة الرواية التي جعل الكاتب فيها الشخوص تحاكي الزمان بألوان المكان لتضفي بهجةً على ملامح السرد والتفاعل بين مفردات القصص وقيامتها (إما أنني مجنون أو أنّ هذه المدينة أصابها الهوس والجنون وأدركتها لوثة عقلية قلبت عاليها سافلها.. أو أننا نحن مجانين).
تمضغُ بعض قصص الكاتب شفاهها، لترخي ظلال حسرتها أحياناً على مسامعنا لقدر غير معلوم، وربما كان ذلك على سبيل التنصيص المقتبس من روحية الكاتب الذي يستند عادة في سرده إلى “الناستولوجيا” والحنين إلى الدفق العاطفي ..إلى عشق الومضة (أحببتُ امرأة، التقيتها مدة ساعة فقط، ساعة واحدة كانت كافية لهزّ كياني وعاطفتي وجنوني) هي من بلد، وأنا من بلد، ولكنّ شرارة الحبّ اقتحمت كلّ الحواجز وجعلتها هباءً..وحين بات السفر محالاً، خبت جذوة الحب وناره، وبقي التواصل بيننا كأصدقاء أو كمحبين قدماء)..إذن، هذي هي سطوة الحنين الذي رسمه الكاتب ليصير خيطاً دقيقاً موظفاً في خلق وحدة نصية سردية روائية لا تخلو من مقامات الوصف بلغة متمكنة، واسترسال ومديح للتشكيل والعلامات، وكما يقول لاير:” عندما نستخدم الترقيم لتنظيم العلاقة بين الكلمات، ننظم تلقائياً العلاقة بين قارئيها. والفاصلة، خصوصاً، أو الفارزة، كما يسميها بعضهم، تفصل ما لا ينفصل، وبسحرها تجمع ما يصعب جمعه”.
في ماضيه ومضارعه، يمنح الكاتب القرّاء حرية التنقل، متخيلاً وحاملاً فواصله وتأويلاته وتراكيبه ببساطة الماء بعيداً عن اللغة المتعنتة لفكّ تكشيرتها ..ولا تخلو القصص من اللغة المحكية العامية الدارجة، التي وظّفها كاستناد قولي، يضفي سلاسةً على المعنى وعلى الحالة القصدية.
في جسد حكايات عماد الدين إبراهيم وشمٌ وتحولات وقيامة حتى اكتمال القمر…الذي جاء في قصتين(اكتمال القمر- ليلة(هوّا صحيح) واكتمال القمر- ليلة الحجاز…إضافة إلى تساؤلات سيكولوجية وبحث عن ذات جاءت على هيئة برقيات معترفاً بأنّ الوقت قد حان ولا مجال للتأخير أكثر من ذلك حتى لا يقع في أمر خارج الحسبان).
بنى بطل تلك القصص الأحداث وكان فعالاً في مسرحة حالاته العبثية بكل مفارقاتها..و لم ينسَ “الوحدة الزمنية” التي جالت بين تضاعيف سطوره وحقق شروط فن القصة.. دون تكلّف، واستنطق الممكن في تمجيد أناه، وهذا حق مشروع لقاص وشاعر امتلك ناصية القول بنبرة المتأمل.
تقع المجموعة القصصية في96 صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023