ناس ومطارح.. سهيل بدور: بين عتبات قلبها المقدسة، أقام حدود الروح وأسماها “وطن”
تمّام بركات
لن تخطئ عين الناظر وهي ترنو إلى وجهها، أن تميز لوناً وردياً يطوف على وجنتيها، ساحباً شحوب سنيها ال 90 من قماش اللوحة، مرة واحدة وإلى الأبد، ذاك أنه قام بمزج الألوان التي استخدمها لتلوين بشرة وجهها الحليبية، بقطرات من دمه، ثم وفي بُعد لوني داكن، يصبح له شكل هالة منيرة كلما صار وجهها أقرب للناظر، أجلسها على كرسي كأنها “بلقيسه” تشرف عليه من عرشها الرفيع أين كان وكيفما كان، ويشرف على حواف قلبها أين كان وكيفما كانت، وإن كان “الجنرال” في رواية “خريف البطريرك” قد أعلن أمه قديسة مدى الزمان، فأن الفنان التشكيلي سهيل بدور، رفع درجة القدسية في علاقته مع والدته، بعد أن أعلنها وطنه النهائي والأخير، وعلى صدر روحه علق أوسمتها، تلك التي منحت، وتلك التي لا تزال تمنح، حتى وهي راقدة في فراش معلق بين السموات والأرض: “لم أجد في مركبات الطبيعة والخيال، لوناً مقدساً بالعرفان، يعطيني تلك اللحظة الفريدة، التي تتحول فيها وجناتها الذابلة، إلى كروم وجنان”.
في منزله الدمشقي المشرف على سوق “الشعلان”، تبدو الحياة وكأنها تسير في إيقاع مختلف عن ذاك الموجود خارج زجاج النوافذ، إيقاع متغير، تفرضه الألوان والشخصيات والذاكرة أيضاً، مجتمعة على جدار، لوحات فنية في كل مكان، منها ما هو له، ومنها لوحات للعديد من الفنانين التشكيليين السوريين الكبار، وعلى علو منخفض عنها، جلس سهيل يصب القهوة، لضيوفه الدائمين والطارئين!
أخذ مكانه المعتاد على الأريكة، ثم بدأ يوزع الفناجين وهو جالس، إلى يمينه جلس فاتح المدرس، يوغل في تداعياته ومحاولاته صياغة تعريف ضوئي للشعر، وعلى الجهة المقابلة وقف نصير شورى، مع شاب في مقتبل العمر، تخرج حديثاً من كلية الفنون الجميلة، والحديث الذي يدور بينهما، يبدو وكأنه يصدر عن “فونوغراف”، يُصدر صوراً عوض الصدى.
أما الشاب المشعث القلب، فهو “سهيل” عام 1981، وقد نال إجازة جامعية في الفنون الجميلة، ويبدو أنه في لحظة تجل خالصة، فلقد قرر أن ينسى كل ما تعلمه في الجامعة، والمضي في طريق شاق ومبهر، واضعاً نفسه أبداً، تلميذاً نجيباً للحياة، منها ومما يختبره في كينونته معها، يصيغ رؤاه ومشاريعه وأفكاره، مشتغلاً أولاً على جعله كل المسلمات الفنية والفلسفية الفنية أيضاً، قابلة للتعديل بل وللإلغاء، فلا صياغات نهائية في الفن، وما من قرارات منجزة ومقدسة لا يمكن وضعها في اختبار “المتعة” الخاص به، والذي ينص على أن: “لا شروط مطلقاً للعمل الفني، الشرط الوحيد والحقيقي بالنسبة لي كفنان، أن تكون المتعة محققة خلال مراحل العمل، متى وصلت إلى لحظة، أفقد فيها متعتي الحسية والنفسية، أثناء الاشتغال على لوحة، فأنني أتوقف فوراً، وأهجر ربما للأبد، ما كنت أعمل عليه بجهد عال ولزمن طويل”
بالقرب من كلية الفنون الجميلة في دمشق، اختار بدور أن يكون مرسمه، متنقلاً ولفترات الطويلة، بينه وبين مرسمه في دولة الأمارات العربية المتحدة، وأوروبا أيضاً، إلا أن سهيل بدور في مرسمه بالبرامكة، ليس هو الفنان سهيل بدور الذي تلتقيه في معرض أو مقهى أو حتى على رصيف! أمام جداريته الكبيرة يروح ويجيء متباهياً بقبضه على الإيقاع اللوني المناسب، إلا أن قلقاً إبداعياً صاخباً، يتمشى معه أمام الجدارية، يضع الفرشاة، يسرد حادثة طريفة أو العكس جرت معه، بنفس الروح، ثم ومن باب لا مرئي أيضا في لوحة ما، يخرج فؤاد غازي معاتباً: “سامع من دمشق الشام عنهم” مغلقاً المشهد على حنين يسوط القلب، لم يبح به سهيل، لكن شروده المتقطع، قال كل شيء.
“لا يوجد لدينا حالة فنية قائمة، يمكن أن يعول عليها، وما لدينا هو دائرة مغلقة، وتنظيرات فارغة لا علاقة لها بالعمل الفني”يقول بدور”
في زاوية خجولة الظهور، وتحت إنارة معدنية نوعا ما، تنتصب الجوائز والتذكارات والميداليات، التي نالها خلال مسيرته الفنية الطويلة، إلا أن حال الفن التشكيلي ليست جيدة بل أكثر، إنها بائسة! يقول “لا يوجد لدينا حالة فنية قائمة، يمكن أن يعول عليها، وما لدينا هو دائرة مغلقة، وتنظيرات فارغة لا علاقة لها بالعمل الفني” يقول بدور ويتابع: “لا يوجد لدينا حركة نقدية صحية، لا في التشكيل ولا في غيره من الفنون، فلا يجوز إسقاط مفاهيم نقدية غربية، على منتج فني محلي، له ظروفه الخاصة فيه”
الحياة التي مضى نصفها في مطارات العالم، وبين كبريات عواصمه، وحال الفن التشكيلي المتقدمة التي يطالعها في أسفاره، جعلت تجربته أوسع وأغنى، يقول: “محزن فعلا ما نحن عليه في الفن التشكيلي، مقارنة بما وصلت إليه التجارب العالمية الفنية، ولا يمكن إغفال الدور السلبي للمتلقي لدينا، فهو عموما محصن بصريا بالزخرفات الهندسية وأشكال الخط وغيرها من الفنون التي لها طابع إيماني، لذا فإن علاقته مع اللوحة التشكيلية، ليست سوية، فهو لا يراها من “الفنون” التي اعتاد أن يسميها كذلك