نذير اسماعيل يرصد ملامح بيئته الريفية وما يكمن فيها من قيم إنسانية
فيصل خرتش
ولد الفنان نذير إسماعيل في غوطة دمشق عام 1948 وهي بيئة تحفل بمظاهر الحياة الريفية البسيطة، وتعود تجربته الفنية إلى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، فقد أقام معرضه الأوَل في دمشق، كما ظهرت أعماله الفنية في عدد من المعارض الجماعية، وحققت أعماله موقعاً جيداً ونال عدداً من الجوائز، داخل القطر وخارجه.
ويبدو أن بيئته لعبت دوراَ في تكوين رؤيته الإبداعية، وعززت لديه موهبة التصوير، فاندفع يلتقط بالكاميرا كل ما يحيط به، وكانت البيوت الطينية البسيطة أحد محاوره، بما تضمنته من تقاليد شعبية ومفاهيمها الإنسانية القائمة على التآلف مع النسيج الروحي والاجتماعي.
إن اللوحات التصويرية التي أنجزها الفنان تحمل روح الفنان بكثير من الصدق والوفاء، وبقليل من الأدوات الشخصية التي اقتصرت على ألوان الشمع، ونزق الحبر الصيني وتغلغله في محيط الأشكال التي تحمل رطوبة الماء المتسكع على صفحات الكرتون التي كان يرسم عليها، صنع لوحته.
رسم الفنان نذير البيوت الطينية، من خلال خطوط بسيطة، كما رسم النوافذ الضيقة، والأبواب الخشبية القديمة، كذلك رسم الزهور والطيور والدواجن، لقد عالجها بعفوية، مع زخارف بسيطة، وابتعد عن دائرة اللون، كان يلون بالأسود والأبيض، وبعض تدريجات اللون الرمادي، مما اكسب اللوحة بعداً تعبيرياً، واقتربت اللوحة من التعبير العفوي الذي تقوده مخيلة الفنان وانفعالاته الرامية إلى تبسيط الأشكال التي يرسمها.
ثمَ بدأ الفنان يرسم الإنسان داخل مستطيلات وأشكال هندسية، لقد أراد للوحة أن تحمل مفهوماً جديداً يظهر فيه معاناة الإنسان في غابة من الإسمنت التي تبتلع البيوت الطينية وتلغي كلّ المفردات المحيطة بالبيئة، وبقي الإنسان وحده يواجه ظروفه الصعبة التي أظهرتها الحياة العصرية، الإنسان الذي يصارع وحيداً، رغم كلّ شيء، وهذه التموجات السوداء والرمادية ليست إلا تأكيداً على عزلته في ديمومة من الصراع الأبدي، وهذا ما أثبتته المعارض اللاحقة، فهو يبحث في الصيغ التعبيرية التي ترصد هموم الإنسان، وكذلك يبحث في التقنيات الفنية التي تخدم هذه القدرات من خلال مؤثرات بصرية مبتكرة تجتاز التقنية المألوفة عنده، إنه يجدد في موضوعاته، ويعطيها الأشياء المبتكرة ليثير دهشة المتابعين لفنه، ففي اللوحات نجد: وجوه إنسانية وأزهار وزخارف وتشكيلات حيوية وشاعرية وخطوط هندسية، ومكعبات، إنَ هذه الأشياء تتحدَى هذه الخطوط القاسية وتضيق عليها وتجعلها بعيدة عن الهواء والحياة، إنه يريد للإنسان أن ينطلق، لكن هناك ما يمنعه، ويرمز إليه بالمكعب والخط، هل ستختفي الزهرة من اللوحة أم أن الشكل الإنساني سيبقى مهما حوصر؟ سيبقى الإنسان ما دام هناك الأمل.
وإنسانه يشبهنا، وأسماكه ونباتاته تشبه رسوم البدائيين، ويغنيها بمؤثرات مبتكرة، مما يجعل لغته الفنية تبدو أكثر إدهاشاَ، وهذا ما نجده في لوحة (القرية) فقد توزعت أشكالها على نحو مغاير للمنظور التقليدي، إنها تملك الجمال البسيط والرقة الشاعرية، ونحسَ بقدرته على البحث والاكتشاف، إنَه يستطيع أن يكثف كلَ شيء (الإنسان أو الطبيعة) فوجه الإنسان يعبر عن الهموم، بينما الطبيعة فإننا نراها تزداد غنائية وشاعرية.
واتخذ اللون طريقاً إلى لوحاته، ليشيع فيها أنماطاً جديدة من الحياة ويساهم في إغناء القيم التعبيرية وجعلها في صورة أكثر واقعية، وأقرب إلى الحقيقة، ولعلَ معرضه الذي أقامه في حلب عام 1998 شهد حضوراً لافتاً للون فقد أحسن الفنان توظيفه بأغراضه التعبيرية، ولعلَ المثير في هذا المعرض الحضور الواضح للطبيعة الصامتة (مزهريات ـ صفائح الزرع) التي عالجها برؤية تعبيرية وحافظ فيها على النبرات اللونية. والوجه الإنساني بات يشكل الحضور الرئيسي في موضوعاته، إنَه يسعى من خلاله للتعبير عن الانفعالات الداخلية التي تترجم الهمَ الإنساني، وأمست العيون نافذة لهذا التعبير، إنه يعمل على الوجه ليعمق موضوعه أكثر، وهناك ملايين الوجوه، وكلٌ له تعبيره الخاص، هذا الموضوع يمت بصلة للهمَ الإنساني، وهذا ما يحب أن يتناوله.
إنَ أهمَ ما يميز لوحاته يكمن في تلك اللحظات التي في أوج تفاعلها، معتمداً على اللون، ومدى قدرته على عكس الحالة الداخلية لشخوصه في حالة الكآبة، التي تفيض بها العيون، في حالة إغماضها وحالة تفتحها على الداخل، والفنان يعمل بطريقة تعبيرية، يحاول أن ينقل على اللحظة اللاشعورية عبر اللون والخط والجو العام للوحة، إنه يحاول فتح نافذة للحوار مع الحالة الإنسانية، وقد بدت اللوحات التي عرضها الفنان في صالة فاتح المدرس في دمشق، كأنها تصوَر رسوم الإنسان البدائي، إنَه يسعى إلى إثارة المتلقي بتقنياته الحديثة، فهو يستخدم العلب الكرتونية، فيعالجها، ثمَ يمدها ويصمغها من أجل الحصول على مؤثرات بصرية غريبة، ويأتي اللون بقوامه السائل ليؤكد إيحاءات اللوحة، ثمَ تتوارد عناصر الحياة لتبعث في اللوحة الحياة التي أراد الفنان تصويرها بمهارته الفنية.
ونجد أنَ الفنان لا يركز على الحضور المقلق لكائناته، لذلك نرى ألواناً تكتمل خارج الوجه في جزء كبير من اللوحة، كأنه الجزء المرئي لمسطح تجريدي لا شكلاني نبتت فيه تلك الحركات المنبسطة والمختزلة، لتوحي بأنَ إنساناً كان هنا، وكانت له حكاية وحياة، ثمَ تماهى في بطء لتبدو مكوَناته من الطينة ذاتها، ولتذوب الفوارق بينها، هذا ما فعله في معروضاته في صالة أجيال في بيروت، لقد استمرَ في استنساخ الرأس كأنه الرمز الذي يكتمل به الطقس الممجد للوجود، ولعلَ الوجه هو المفتاح إلى تكوين اللوحة، ويعمد إسماعيل إلى استعمال أرضيات مخلوطة بإتقان ليعطي الانطباع بأنها مجبولة من مواد عضوية كأنها من طينة الحياة، من خلال تكويناته وألوانه التي توحي بالشكل دون أن تسفر عنه دفعة واحدة، وتعربد ريشته لتزرع الوجوه الإنسانية بشتى الانفعالات المأساوية، إنها لوحات لا تطمح إلى المصالحة، بل تؤكد على ضرورة توفر العدالة بين الكائنات التي تعيش فوق كوكبنا.
توفي القنان نذير إسماعيل في 12 تشرين الأول عام 2016.