تحقيقاتصحيفة البعث

أضعاف ما كان عليه قبل الحرب.. “التسيّب الوظيفي” علناً في أغلب مؤسسات الدولة!!

على الرغم من أن الخوض في حديث “التسيب الوظيفي” ليس جديداً، إلّا أنّ ما يحصل في الكثير من الدوائر الحكومية يخلق حالة من “الشراهة” لإعادة طرح المشكلة التي بتنا نطلق عليها اسم “ظاهرة” للأسف، لعلّ وعسى يكون في إعادة الطرح إفادة من ناحية إيجاد حلول جذرية وليس آنية، خاصّة وأن الوظيفة الحكومية لم تعد تخطر على بال الخريجين حتى كحل مبدئي ريثما ينطلقون إلى سوق العمل الخاص!.

ولم يعد خافياً على أحد أن تقديم الاستقالات في الآونة الأخيرة لم يعد مقتصراً على وزارة أو مؤسسة محددة، بل على العكس، فحالة النفور من الوظيفة العامة استشرت بشكل مخيف بين ثنايا جميع المؤسسات والهيئات، الأمر الذي خلق مخاوف من الوصول إلى مرحلة فقدان الإنتاجية بشكل نهائي، ولاسيّما مع تأكيد الكثير من أهل الخبرة على أن إنتاجية بعض المؤسسات لم تتخطَ الصفر على الرغم من أن عدد العاملين فيها “ظاهرياً” لم يتجاوز منطقة الخطر، إلّا أن ما يعرف بالتسيّب الوظيفي وعدم تواجد أعداد ليست بالقليلة في أماكن عملهم لأيام تصل إلى أشهر وسنوات في بعض المطارح خلق فجوة كبيرة في الإنتاج المؤسساتي للكثير منها، والتي باتت أشبه بالمتاحف الصناعية التي تغيب عنها صفة الإنتاجية وحتى تسمية المؤسسات الصناعية.

هجرة العمالة

ومع تلقينا شكوى صريحة من العاملين في مشفى حكومي يعاني كغيره من مفاصل القطاع الصحي من نقص كبير في عدد الكادر الطبي نتيجة السفر خارج البلد أو التسرب للعمل في القطاع الصحي الخاص مع الحفاظ على وجود أسمائهم كعاملين في الدولة، إذ تدور رحى هذه الشكوى حول تسيّب لعدد من العاملين في المشفى منذ بداية الحرب على البلد حتى اليوم، واستمرار صرف أجورهم الشهرية ضمن خطة مُحكمة بينهم وبين زملائهم بحيث يعمل أحد زملائه كبديل عنه مع قبضه لأجره وأجر زميله الشهري، في المقابل يعمل الآخر في القطاع الخاص على مدى سنوات طويلة، وهذا الحال ينطبق على الكثير من القطاعات التي كنّا أيضاً شهود عيان على التسرب والتسيّب الوظيفي فيها.

لا علم له!

ومع تواصلنا مع مدير المشفى الحكومي الذي أكد عدم علمه بالموضوع وضبطه الحالة بأقصى سرعة، لافتاً إلى عمل أكثر من 95% من الكادر الصحي في القطاعين العام والخاص بشكل متناوب بحيث يتم تجميع عمل الممرض أو الفني أو الطبيب لأيام محددة في المشفى الحكومي وأيضاً في الخاص في ظل تدني الوضع المعيشي وعدم كفاية الراتب الحكومي لأكثر من يومين في الشهر، بالتالي فإن خيار العمل في القطاع الخاص هو الملاذ ليس فقط للعاملين في القطاع الصحي بل لجميع العاملين في قطاع الدولة، ولم ينفِ حالة النقص الكبير في عدد العاملين في هذا القطاع، ولاسيّما أطباء التخدير وفنيي الأشعة، إلّا أن عامل الهجرة هو المسبب الأكبر لهذا النقص لا التسيّب الوظيفي، خاصّة وأن هذا النقص يشمل القطاعين العام والخاص.

حوافز ضعيفة

وعلى الرغم من كثرة القرارات والقوانين الصادرة عن وزارة التنمية الإدارية بهدف تحسين وضبط وإعادة هيكلة الوظيفة العامّة، إلّا أن شيئاً ما لم يستجد أو يغير الوضع، إذ يجد مضر سليمان (إدارة موارد بشرية) أن هروب الكفاءات العلمية من الوظائف العامة في السنتين الأخيرتين لم يقتصر على موظفي الفئات الثالثة وما دون، بل وطال أيضاً أصحاب الكفاءات العلمية والشهادات الجامعية، وهو ما بات يشكل خطراً جسيماً، ولاسيّما مع عدم تعيين البديل وسط قناعة تامة من القائمين على المؤسسات بوجود أعداد كافية وكادر جيّد قادر على تأدية المهام الموكلة إليه، لافتاً إلى وجود أكثر من 20% من حالات التسيّب الوظيفي في كل مؤسسة حكومية كحد أدنى.

وأشار سليمان إلى أن فكرة الاستقالة لم تعد ناجعة وسط رفض الكثير من الطلبات والخوف من حدوث فجوة في الإنتاج الوظيفي شكلاً، كما أن خيار التسيّب الوظيفي يطغى على طلبات الاستقالة في حال استطاع العامل تحقيقه والاستغناء عن راتبه أو جزء منه لمراقبي الدوام.

ولم يخف الخبير الإداري أن أكثر من 60% من موظفي الدولة القائمين على رأس عملهم حقيقة بدوام كامل هم ليسوا أكثر من عبء يُضاف إلى أعباء الخلل الإنتاجي، فمن الملاحظ أن هؤلاء الموظفين يداومون بشكل نظامي لكنهم لا يقدمون أي قيمة إضافية لوجودهم، مُرجعاً ذلك إلى عدة أمور أهمها الحافزية الضعيفة للموظف تجاه العمل أي عدم الاقتناع بالعمل الذي ربما تكون طبيعته غير متناسبة مع قدراته الفائضة أو القليلة، أما السبب الثاني فمرتبط بالفساد الحقيقي وارتباط الموظف بأعمال أخرى خارج القطاع العام، مع احتفاظه بوظيفة القطاع العام كضمان لمستقبله في حال فقدان عمله الخاص.

إعادة هيكلة

مما لاشكّ فيه أن الحديث عن إصلاح الوظيفة العامة أخذ الحيّز الأكبر خلال السنوات الأخيرة، وبات خياراً حتمياً من حيث هيكلة الدولة والأفراد وصياغة المعايير، حيث يعتبر تيسير الزينات (استشاري إداري) أنّ فساد الوظيفة العامة يتمثل بهروب الموظف من عمله، وهذا يتطلب تعديل شروط الإشغال والتعيين والتقييم وتحقيق مبدأ المساواة في الوظيفة العامة ومبدأ تكافؤ الفرص والفرص المتكافئة، ومبدأ الكفاءة العلمية والمهنية في التعيين والاعتماد على القيم الأخلاقية،

ولفت الزينات إلى أهمية إعادة النظر بهيكل الوظيفة العامة كلياَ من خلال إعادة توزيع العمالة ورسم خطوط جديدة لها وإيجاد خرائط وتوزيعها وفقاً لمتطلبات الواقع الحالي، ورسم ملامح الوظيفة العامة المناسبة لاقتصاد البلد الحالي. وهذا يعني أن على الحكومة أن تفكر بإيجاد لجنة أو مجلس أو هيئة تهتم بإعادة هيكلة الوظيفة العامة ومتابعة قضاياها.

ولم ينف الخبير الإداري أن وظيفة الدولة كانت على مدى عقود هاجس الغالبية العظمى من الخريجين وكانت الذراع الآمن للمواطن خلال سنوات الحرب، إذ أثبت القطاع العام ثباته وحفاظه على موظفيه في الوقت الذي أغلقت الشركات والمؤسسات الخاصّة أبوابها أمام العاملين فيها، إلّا أن الوقت الراهن يتطلب تحديث نظم الترقية ومعاييرها في قطاع الدولة، وإحداث هيئة جديدة لمكافحة الفساد تحلّ محل أجهزة الرقابة الحالية، مع أهمية تدوير الوظيفة القيادية بين المواقع المختلفة لتحقيق الخبرة الشاملة، وإشاعة ثقافة التدريب واختيار العناصر الواعدة لتكوين القيادات المستقبلية.

ميس بركات