عن غسان كنفاني وسرديات التراجيديا الفلسطينية
أحمد علي هلال
ماذا لو عاش غسان كنفاني، ليشهد هذه الأيام؟ والأدلّ: ماذا لو رأى شخصياته كلها تتحرك في فضاء اليوميات الفلسطينية الفارقة؟
لكن غسان كنفاني عاش أكثر بوصفه ضميراً شاهداً وشهيداً، وجسده الذي تناثر في يوم تموزي حارق (8 تموز 1972)، واعتلى الأشجار بشظاياه المشعّة، وبسطر طفولي شديد البراءة (لميس) ابنة أخته، تلك الحكاية التراجيدية التي يمكن تأويلها غير مرة حينما يكون المثقف شهيداً مشتبكاً، وحينما تتوزع حيوات شخصياته على أزمنتنا هذه لتمشي في دروبها وتأول من عمارة الكلمات إلى عمارة الوطن.. الوطن الذي ظل في فكر غسان كنفاني مجازاً وحقيقة بآن، وهو الذي انبنت له تلك العمارات الروائية الباذخة، لكنها المتنوعة بقلقها وأسئلتها الكبرى، العابرة لكل سؤال ممكن على المستوى الوجودي والفلسفي والكفاحي، في هذه السياقات الفادحة كان غسان يعبر إلى زمن الحكاية الفلسطينية الطليق، لكنها الحكاية المتعددة الواسعة الطيف (رسماً وسرداً وبحثاً ومسرحاً)، الزمن الفلسطيني والعربي الذي بحث عن المعادل الإبداعي للقضية الفلسطينية وكيف تتصادى سياقاتها في الأرواح والعقول والإرادات وأدوات الكتابة ذاتها، التي سعت لاشتقاق معنى الوطن، ذلك المعنى القصي بوصفه ذاكرة حياة أو أكثر من حياة، تلك مأثرة الشهود وتوقهم للأفعال الكاملة، إذ الشهادة هي من تشي بها وتفتح في المجال لتأويلها أكثر، عطفاً على سؤال لاهب وحار: «لماذا لم يقرعوا جدار الخزان»، السؤال في جدليته المفتوحة على تواتر الصراع وممكناته الطليقة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، وسيذهب السؤال أبعد في استنهاضه لغير سؤال لامع في اشتقاق أشكال المقاومة وبلاغتها في غير زمن، وذلك ما يجعل من غسان كنفاني الاسم/ القضية، أكثر من فكرة ملونة، وبمنطق الضرورة التاريخية/ الإبداعية لأجيال قادمة تستقرئ الوعي بجدلية الوطن والإنسان، وبجدلية الفكرة واستحقاقها.
كانت معادلة غسان كنفاني وهي ترفد الضرورة التاريخية بزخم فكري، أكثر قدرة ليس على صوغ السؤال الكبير الذي يجتهد في اشتقاق معنى الوطن فحسب، بل أكثر قدرة على قوة الكلمة التي تفجر أنهارها وتضفر سواقيها في الوجدان واليوميات الأخرى، لتصبح المأثرة هنا بتعددها حقلاً من الدلالات المشعة، والتي لا يمكن اختزالها، بل إشاعتها تخصيباً لفكر السرد المعاصر، ذلك ما تمليه ضرورات السؤال النقدي بوصفه كشفاً وانزياحاً عما كان سائداً لافتراع معنى المعنى، في استشهاد غسان كنفاني وعودته في الأزمنة المختلفة، إذن فمن السؤال الكثيف الذي باح به غسان كنفاني في زمن كان فيه أستاذاً للرسم في دمشق ماذا سترسمون –يسأل تلامذته- سيأتي الرسم بعلامة فارقة، وعلى لسان أحدهم: سأرسم الوطن.. واكتملت اللوحة باستشهاد غسان وليترك بين أيدينا ذلك التوهج الخلاق، أي عوالمه الذاهبة لإنجاز معنى ثقافة المقاومة، في زمن متغيّر سيصبح استحقاقاً إبداعياً باهراً، أو كنشيد طويل يعضد أبجدية الحياة لمن شبه لنا بأنهم رحلوا!.