موجة تمرد ضد حكم الدولار الأمريكي
البعث الأسبوعية- هناء شروف
هناك تطور مهم سيوجه ضربة لأولئك الذين علقوا آمالهم على الولايات المتحدة، فقد أصبح إنشاء نظام عالمي أكثر عدلاً حقيقة واقعة تدريجياً، مع تصاعد موجة التمرد ضد حكم الدولار الأمريكي الذي دام ثمانية عقود في التجارة العالمية.
عرش الدولار الذي كان عملة التبادل الدولية من قبل نظام “بريتون وودز” في عام 1944 بدأ ينهار، وبدأ معه تشكل نظام اقتصادي جديد متعدد العملات، ونظام اقتصادي متعدد الأطراف يحل محل النظام الاقتصادي الذي يهيمن عليه الدولار.
هناك ثلاثة عوامل في هذا التطور، وهي التجارة في العملات الأخرى، والتجارة في عملات البلدان النامية بدلاً من الدولار أو اليورو، والعملات الأخرى التي تحل محل الدولار.
ولعل أهم تطور، هو انتشار التجارة في عملات الدول الأخرى بما في ذلك بعض اقتصادات الأسواق الناشئة، خاصةً أن العديد من البلدان تستخدم الآن عملاتها الوطنية بدلاً من الدولار للتجارة فيما بينها.
كل يوم جديد يأتي بأخبار صفقة جديدة بعملة بلد آخر، ففي الآونة الأخيرة أعلنت إيران وإندونيسيا أنهما ستتداولان بعملاتهما الخاصة بعد أن زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إندونيسيا في 23 أيار الماضي، وأعلن أنه تم التوصل إلى اتفاق تجاري مع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو لتبادل عملات بعضهما البعض.
اليوم تتداول 60 دولة بعملاتها الوطنية بدلاً من الدولار، فالهند التي أصبحت قريبة بشكل متزايد من الولايات المتحدة، تجري تجارة خارجية بعملتها الخاصة، ولديها اتفاقيات تجارية مع 19 دولة للتجارة بعملتها الخاصة. والأهم من ذلك، تغلبت على الضغوط الغربية، وخاصة الضغوط الأمريكية، وواصلت التجارة مع روسيا على الرغم من الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وتقوم بالالتفاف على العقوبات الغربية وتدفع لوارداتها النفطية من روسيا بالروبية الهندية. وباعتبارها خامس أكبر اقتصاد في العالم، تحاول الهند أيضاً تدويل الروبية لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي في التجارة العالمية.
كذلك تبنت روسيا، التي من المتوقع أن تتجاوز تجارتها مع الصين 200 مليار دولار بحلول نهاية هذا العام، اليوان كوحدة دفع، الأمر الذي وجه ضربة كبيرة أخرى للدولار كعملة صرف دولية، حيث قال رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، إن حصة المدفوعات بين البلدين بعملاتهما الخاصة ارتفعت من الربع في عام 2021 إلى الثلثين العام الماضي. ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن بنك روسيا، فقد زادت حصة اليوان في التجارة من 4 في المائة في كانون الثاني 2022 إلى 23 في المائة بحلول نهاية عام 2022.
وبذلك فقد حل اليوان محل الدولار باعتباره العملة الأكثر تداولاً في روسيا من حيث حجم التداول الشهري لأول مرة في شباط 2023، وفقاً لتقرير بلومبرغ الذي أكد أن الفجوة تتسع لصالح اليوان.
كما حدث تطور مماثل في البرازيل، وهي جزء من مجموعة “البريكس”، فخلال زيارة الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الأخيرة إلى بكين، اتفق البلدان على خطة للتجارة باليوان.
وقررت الأرجنتين، ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، دفع ثمن البضائع المستوردة من الصين باليوان بدلاً من الدولار اعتباراً من بداية عام 2023. وفي نيسان الماضي، أعلن الرئيس البوليفي، لويس آرس، أن حكومته تدرس اعتماد اليوان كبديل للدولار في التجارة الدولية.
في 23 آذار الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً يمنع الاقتصادات “غير الصديقة” – بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان – من شراء الغاز الروسي بأي عملة غير الروبل الروسي، وذلك رداً على العقوبات الغربية المفروضة على موسكو في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني في شباط 2022.
إلى جانب ذلك اتفقت تركيا وروسيا على استخدام الروبل في تجارة الغاز الطبيعي في آب 2022 ، كما تعمل تركيا على اتفاقية لإجراء تجارة مع إيران بعملات البلدين.
من هنا، تضعف سيطرة الدولار في التجارة العالمية من خلال الاستخدام الواسع لعملات أخرى غير الدولار، حيث يبرز اليوان الصيني والروبية الهندية والروبل الروسي في هذا الصدد، حيث تفضل الدول المتاجرة بأي عملة غير الدولار بما تناسب مع مصلحتها. وتظهر بنغلاديش كـ خير مثال، حيث وافقت على دفع ثمن الواردات من روسيا باليوان.
كما بدأت المملكة العربية السعودية أيضاً في قبول مدفوعات باليوان لصادراتها النفطية، حيث تفكر دول خليجية أخرى أيضاً في استخدام اليوان في تجارة النفط. في السابق كان يتم تداول النفط بالدولار فقط، أما الآن فإن التجارة بـ اليوان هي في اتجاه صاعد.
ووفقاً لـ “بلومبرغ”، انخفضت نسبة الدولار المحتفظ به في احتياطيات النقد الأجنبي من 73 بالمائة في عام 2001 إلى 58 بالمائة في عام 2023. بدأ الانهيار الكبير الأول للدولار مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم تسارع في عام 2016، وجاء أسرع انهيار مع الصراع بين روسيا وأوكرانيا. وبحسب بلومبرغ، في عام 2022 وحده بلغ معدل انخفاض حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي 8 في المائة، وارتفع معدل الانخفاض بشكل كبير في العام الماضي.
تكتسب الجهود المبذولة لإنشاء عملة دولية جديدة لتحل محل الدولار زخماً كبيراً، حيث يمكن لقمة “البريكس” في آب القادم أن تمهد الطريق لاستخدام عملة جديدة لتسهيل التجارة بين أعضاء البريكس. تمثل دول البريكس حالياً 41 في المائة من سكان العالم، و 31.5 في المائة من السلع والخدمات في العالم، وهناك دول عديدة تنتظر الموافقة للدخول في هذا المنتدى العالمي.
من المفارقات أن تسليح الدولار أدى إلى تآكل مكانته باعتباره “عملة صالحة دولياً”، وبات في السياسة الأمريكية كـ هراوة بدل أن تعمل كـ “سلعة عالمية”، حيث أدت الإجراءات الأحادية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية إلى تفاقم أزمة الدولار في السوق الدولية.