مجلة البعث الأسبوعية

نقوش .. زمن الضحالة

” البعث الأسبوعية ” محمد كنايسي

ثمة نوع من الكتاب (أدباء، نقاد، صحفيين..) يمكن القول إنهم يشكلون الأغلبية للأسف، دخلوا كار الكتابة، إذا جاز التعبير، من باب التحيل، في ظل وضع ثقافي بائس لا تمييز فيه بين الأصلي والمزيف. وقد أتيح لي بحكم عملي الطويل في الصحافة، واهتمامي الثقافي أن أعاين هذه الظاهرة عن قرب.

بعض المدعين ممن يتكرر حضورهم الهزيل في الندوات والأمسيات الثقافية، وتمتلئ صفحاتهم علي الفيسبوك بالمنشورات السخيفة اقتحموا ميدان الكتابة بكل وقاحة ودون امتلاك أي من المؤهلات اللازمة لهذا العمل الذي يكاد يصبح اليوم عمل من لا عمل له. ومع أن نصوصهم المكتوبة ومداخلاتهم الشفوية، بما فيها من أخطاء وركاكة وضحالة، لا تثير إلا الاستياء والسخط، فإن الرداءة الثقافية السائدة تمكنهم من الاستمرار، وتفتح أمامهم الأبواب ليصبحوا شعراء وروائيين ونقاداً ومفكرين وصحفيين رغم أنف الشعر والرواية والنقد والفكر والصحافة!

وأذكر أنني عندما كنت رئيس القسم الثقافي في “البعث” ومسؤولاً عن صفحة (على دروب الابداع) المخصصة لنشر محاولات المبتدئين في مجال الأدب، زارني مرة شاب طالباً نشر قصيدة قال إنه كتبها بدموعه عن فلسطين المحتلة. رحبت به وسألته بداية عن عمله، فقال إنه طالب غير مداوم، ويعمل في بيع الخضار مع والده مضيفاً إنه يهوى الشعر ويريد أن يصبح شاعراً. قلت في نفسي وأنا آخذ منه الورقة ربما كان موهوباً، لكني فوجئت بنص سجعي كثير الأخطاء اللغوية ولا علاقة له بالشعر والإبداع من قريب أو بعيد، فقلت له دون تردد: نصك للأسف لا يستحق النشر. انزعج الشاب ورد : قرأته لأكثر من شخص ونال الإعجاب فكيف لا يستحق النشر. استفزني رده فأجبته بلهجة قاطعة: لأنه نص تافه، ومن قال لك إنه جيد إما أنه كان يضحك عليك أو أنه مثلك لا يفهم شيئاً في الشعر. قال بحدة: هذه قضية عن فلسطين فكيف تقول إنها تافهة. قلت منهياً النقاش: لا شأن لفلسطين بحكمي على نصك إطلاقا، لأنه لا يكفي أن تكتب عن فلسطين لتكون كتابتك جيدة، شعراً كانت او نثراً، وأضفت ناصحاً: السؤال الذي يجب أن تطرحه بكل جدية على نفسك هو: كيف أكتب نصاً أدبياً حقيقياً عن فلسطين إذا كان موضوعها يهمك كما تقول. ولتستطيع كتابة هذا النص عليك أن تتعلم الكثير قبل أن تحاول.

خرج الشاب من مكتبي منزعجاً ولم يعد مرة أخرى، ونسيت قصته تماماً إلى أن رأيته مصادفة بعد أكثر من عشر سنوات في ندوة أدبية، وكان مشاركاً فيها بصفته ناقداً وإعلامياً كما عرفت به مديرة الندوة. قلت في نفسي لا بد أنه لم يعد ذلك الشاب الجاهل الذي عرفته قبل عشر سنوات، واستمعت إلى مداخلته بكل اهتمام، فإذا بها كلام مبعثر لا يدور حول فكرة جوهرية، وقد حاول أن يخفي ذلك باستخدام بعض المصطلحات الطنانة من قبيل التناص والانزياح وعتبات النص لكنها كانت دخيلة على سياق هو بالأساس غير واضح ولا منسجم فزادت الطين بلة.. عندها عرفت أن كل ما فعله صاحبنا خلال تلك السنوات هو حفظ أسماء بعض الكتب المشهورة والكتاب المشهورين وبعض المصطلحات والأفكار المأخوذة من المنجز النقدي الأدبي الغربي، والتي تحولت الى موضة عندنا، معتقداً انه أصبح بذلك ناقداً لا يشق له غبار، وأما الإعلام فلا أدري أين وكيف تعلمه، ولا كيف أصبح ناطقاً إعلامياً باسم إحدى المؤسسات..

عندها تذكرت شخصية طريفة لمثقف تونسي كنا في سبعينيات القرن الماضي أنا وثلة من هواة الأدب المبتدئين نتحلق حوله منبهرين بثقافته الموسوعية وخطابه المتخم بمصطلحات ومفاهيم فلسفية جديدة على أسماعنا وتصيبنا بالدهشة. وكنا لا نراه إلا حاملاً كتابين أو ثلاثة وكأنه لا يتوقف عن القراءة أبداً.. حتى اكتشفنا بعد نضوجنا أن معلمنا كان يسرق الكتب من المكتبات العامة والخاصة ويكتفي بحفظ كلمة الناشر، أو فقرة من مقدمة الكتاب، كما كان يحفظ المصطلحات والمقولات الفلسفية من أحد المعاجم.. وكانت تلك عدته الكافية ليثير إعجابنا، ويجعلنا نتبارى في إهدائه علب السجائر لأن السيجارة لم تكن تفارق أصابعه أبداً.. لكنه كان للإنصاف يمتلك لغة سليمة ليست كلغة ذلك الناقد والإعلامي المزعوم الذي امتلأت مداخلته الشفوية بأخطاء لغوية فادحة كان يستحق عليها السجن لو كان ثمة محاسبة ثقافية.. لكنه زمن الضحالة التي لم تعد تثير حتى مجرد الاستغراب!