بعد روسيا… تبون يشد الرحال إلى الصين
هيفاء علي
ما إن وصل الرئيس الجديد عبد المجيد تبون إلى قصر المرادية، حتى بدأت الدبلوماسية الجزائرية تنفض عنها بعض الغبار، رغبةً في الخروج من الانطواء والعزلة، ولعب أدوار متقدمة على مستوى المنطقة، وتم معاينة ذلك في العديد من الملفات، منها الملف الفلسطيني، والملف الليبي والتونسي، وملفات منطقة الساحل.
خلال هذه التحركات، برز أمر جديد، إذ كان معروفاً عن الجزائر علاقاتها القوية مع المعسكر الغربي، لكن منذ وصول تبون الى الرئاسة بدا واضحاً أنه اختار إقامة تحالفات جديدة بعيداً عن التحالفات القديمة، مستغلاً الطفرة المهمة في أسعار الغاز والنفط، وتراجع القوى الغربية، وبروز قوى منافسة لهم.
وهكذا في منتصف حزيران الماضي، زار الرئيس عبد المجيد تبون روسيا، بدعوة من نظيره فلاديمير بوتين في “إطار تعزيز التعاون بين البلدين الصديقين”، زيارة طغى عليها الجانب الاقتصادي، وتجلّى ذلك في الاتفاقيات المبرمة بين البلدَين، خاصةً “إعلان الشراكة العميقة” الذي سيعطي “آفاقاً جديدة خاصة بتنويع التعاون الاقتصادي، ليشمل مجالات متنوعة كالطاقة والزراعة والأمن السيبراني والتعليم والثقافة والسياحة”.
نهاية الأسبوع الجاري، سيقوم تبون بزيارة دولة للصين الشعبية، يبحث فيها مع نظيره الصيني شي جين بينغ، تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين، وتحديث اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة الموقعة بين الجزائر وبكين منذ العام 2014.
كما سيتم تناول ملف انضمام الجزائر لمجموعة “بريكس”، وذلك بعد أن حصلت الجزائر على موافقة مبدئية من روسيا والصين على مطلب الانضمام لهذه المجموعة الاقتصادية البارزة. بالإضافة الى مسعى الجزائر لتنويع اقتصادها، وتسريع وتيرة نموه، واستغلال الموارد المتوافرة بالاستفادة من قدرات الصين.
وتعتبر هذه الزيارة هي الأولى لرئيس جزائري للصين منذ آب 2008، ويذكر أن للجزائر علاقات خاصة مع الصين تعود إلى حرب التحرير (1954-1962)، وكانت جمهورية الصين الشعبية أول دولة غير عربية تعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أسابيع فقط من إعلانها في أيلول 1958.
كما دافعت الدولة الجزائرية حديثة النشأة عن حملة بكين لكسب الاعتراف بها باعتبارها الممثل الوحيد والشرعي للصين في الأمم المتحدة، وتضامنت الجزائر في نهاية السيتينيات مع الصين باسم “مناهضة الإمبريالية”، حتى تم وصفها بـ”مكة الثوار” بعد استقبالها المناضلين اليساريين من جميع أنحاء العالم.
وخلال العشرية السوداء (1992-2002)، بينما كانت العديد من الدول الغربية تسحب موظفيها الدبلوماسيين من الجزائر، كثفت الصين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع هذا البلد المغاربي، ما مكّنها من الحصول على العديد من الامتيازات.
وتأتي هذه الزيارة بعد 9 أشهر من توقيع البلدين على الخطة الخماسية الثانية للشراكة الإستراتيجية 2022-2026، وهي الخطة الثانية من نوعها، حيث وقعت الصين والجزائر اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” في 2014، لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
تأمل الجزائر في تطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين، خاصةً أنها انضمت إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية في 2018، وفي 2022، أعلن البلدان التوصل إلى توافق على “الخطة التنفيذية للبناء المشترك للمبادرة التي سيتم توقيعها بأقرب فرصة”.
يُذكر أن الصين، تحافظ منذ 2013 على صدارة المصدرين إلى الجزائر، حيث أزاحت فرنسا التي احتكرتها لعشرات السنين، وتحولت بكين إلى الشريك التجاري الأول للجزائر، ويمتدّ التعاون بين البلدين ليشمل كل المجالات تقريباً منذ إنشاء البلدين عام 1982 اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والفني.
وتأمل الجزائر في تنمية اقتصادها في ظل بحثها عن تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط والغاز، ذلك أن الاقتصاد الصيني يتميز بالتنوع الكبير والنمو السريع، ويعتبر ثاني اقتصاد عالمي، وتسعى الجزائر لاستقطاب شركات صينية أكثر للعمل في بلادها.
ومن أبرز المجالات التي تركز عليها الجزائر، قطاع المناجم والصناعات التحويلية والبنى التحتية والأشغال العمومية، إضافة إلى مجال الفضاء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقطاع الأسلحة وتطوير منظومات الدفاع والجيش.
وتعتبر الصين أول مستثمر أجنبي في الجزائر، إذ تستحوذ شركاتها العاملة هناك على استثمارات فاقت الـ 20 مليار دولار تشمل البنية التحتية والمنشآت الكبيرة، ومؤخراً حصدت شركاتها على أغلب صفقات المشاريع الكبرى في مجالات البناء والأشغال العامة بالجزائر.
ومن أبرز المشاريع التي أشرفت عليها شركات صينية، ميناء الجزائر الجديد وتوسعة مطار الجزائر الدولي والسكنات والطريق السريع شرق غرب وجامع الجزائر، وفي آذار 2022، بدأ الشريك الصيني استثمارات بقيمة 7 مليارات دولار في قطاع الفوسفات لإنتاج 5.4 مليون طن من المخصبات الزراعية، كما ظفرت 3 شركات صينية بمشروع منجم غار جبيلات لاستخراج خام الحديد بقيمة ملياري دولار في مرحلة أولى.
منذ عام 2000، ساهمت الاستثمارات والنشاطات الصينية في الجزائر، في خلق أكثر من 50 ألف موطن شغل، كما حقّقت تدفقات مالية كبرى، وتسجل هذه التدفقات ارتفاعاً متواصلاً، خاصةً مع اهتمام الشركات الصينية بجعل الجزائر إحدى نقاط ارتكاز لتوسعها في إفريقيا.
هكذا، وعلى اعتبار أن المنطقة تشهد في الآونة الأخيرة تحولات عديدة، وإعادة تشكّل لتحالفات جديدة، فقد ارتأت القيادة الجزائرية أن ضمان صداقة حلفاء أقوياء مهم لأمنها الداخلي، خاصةً أن هؤلاء الحلفاء يمثلون قطباً واعداً في الساحة الدولية، وقد ظهرت قوته في العديد من المحطات.
وعليه، يمكن القول إن الجزائر وجدت في روسيا والصين الشريكين اللذين يمكن أن يحققا لها القيمة المضافة مقارنة بدول العالم الغربي، وأن يضمنا لها التعامل وفق قاعدة رابح-رابح، وهو ما دفع قيادة البلاد إلى توجيه بوصلتها هناك بعيدًا عن الغرب.