حفيدة الشمس
غالية خوجة
متلهفة كفراشة لضوء القصيدة تركض إلى لهفتي، تصافح نبضاتي، ونغرق في هذا العالم الافتراضي، لنقرأ معاً ملامح الأزمنة على الدفاتر والكتب والشاشات، ونقرأ آثار ظلالنا على شموع المحبة الممطرة دائماً زهوراً لازوردية تشبه النجوم الأولى وهي تتشكّل.
ننثر النجوم حولنا، نزيح الأشواك النابتة على الأيام البعيدة، فتلمع الكلمات في العتمة، وتشعّ القلوب، وتبدأ الحكايات بيننا، تبدأ ككل شيء ولا تنتهي.
منذ أزمنة رأيتها في حلمي، كانت تكمل مخطوطة روايتي وهي تجلس قريباً من قبري، الأنوار تتسرنم، والأحداث الضبابية تتضح، والذاكرة بطلة المخيلة، والمخيلة شخوص تجعلني أحدها وأنا أركض في أحد الشوارع الغريبة وأنا أحمل ابنها، بينما تتأرجح حفيداتي ويبدو من قلوبهم نبض يتناغم مع نبضي، بينما يد والدهم الطيبة الكريمة تدفع الأرجوحة وتبتسم فأبتسم ونكمل حوارنا من خلال الشاشات الالكترونية، بينما الأمكنة فتتقارب مثل مجرات لا مرئية، يدور حولها تلسكوب “جيمس” ليلتقط ألوان خفقانها، وتشكّلاتها الحيوية وهي تصبح وردة من دهان.
طوبى لمن لم يتخلّ عن طفولته ولم تتخلّ عنه طفولته تلك المعشوشبة مع تصرفاته ونواياه ودهشته وكلماته وأحلامه، المزهرة مع حفيداته وأحفاده وأسباطه وبراءة كل طفل صغير أو كبير، فيحسبها الشمس صارت مركباً أو موجة أو شاطئاً أو مطراً أو لعبة أو شجرة أو أرجوحة.
للطفولة تحولاتها المتجددة مع كل لحظة، وناياتها التي ما زالت قصباً في الواحات والسهول، قصباً ينتظر لهفة محبته وألحانه وأناشيده السابحة بين البحار والسماء، فلا المراكب تصل، ولا الشواطئ تضيق، ولا أجنحة الذات تهدأ عن الأسئلة، ووحدها الروح تبحث عن عالمها، فتغادر من مركب، وتصعد إلى مركب، تتسلق جبلاً فجبلاً، وتتمسك بحبال النور.
وحين يبتسم النور نرى وجوه الطفولة قلوباً مشعة في عتمتنا المحيطة، وتتحول ملامح أحفادنا إلى أجنحة تخطفنا من زماننا المغبرّ إلى مستقبل مضاء بما صنعناه وما سيصنعونه، لأن العمل فضاء آخر لاستمرارية الزمان وتكويناته وما سنورّثه للأجيال القادمة.
فلا تدع مركبك يضلّ أو يجنح، بل أنقذه من الداخل، لأن المركب المثقوب غارق، والمركب المثقَل بالمصالح الخاصة يغرق، والمركب الذي يقوده القلب المتضافر مع الروح ينجو لأنه من ماء نقيّ يسبح في ماء نقي.
ما زالت حفيدتي تكمل معزوفتها، فتضع أصبعاً رهيفة على أصبع أبيض يرنّ مثل الشمس في آخر موجة من البحر، وحين تضع أصبعها الثانية على الأصبع الأسود يصبح القمر بدراً، فترقص الموسيقا مع حفيدتي الثانية على أنغام بحيرة البجع ببنما ترسم حفيدتي الثالثة لوحة من نبضاتنا، وتدور بين البجعات مثل مولوية تدور معها السماء، فتمطر القلوب، وترتفع السنابل، ويثمر النخيل، وتُضاء الموسيقا بما يجول بيننا والأزمنة والأمكنة، فتبتهج الطيور والعصافير، وترافقنا ذاكرتنا مثل طفلة ذاهبة إلى المدرسة بشوق، أو طفلة مشاركة في رحلة لمعلم أثري متوّج بالحضارة، وترافقنا أحلامنا مثل فراشات ترفرف حوالينا، تتعلق بنا، وتوشوشنا بالقادم.
هل فكرتم يوماً بطفولتكم الممتدة منذ طفولة آبائكم إلى آخر طفل يحبو على هذه الأرض؟ وكيف ما زلتم تصطادون النجوم، وتضحكون لأشكال الغيوم، وتتأملون أنفسكم في كل ما يحيط بكم من ناس وكائنات وطبيعة؟
إذا فعلتم ذلك، فلا شك أنكم تمزجون بين مسؤولية مسؤولة، وحكمة عظيمة وطفولة لا تنتهي وقلب عفوي واسع، تبنون الإنسان الذي في دواخلكم بقيم ضوئية ثابتة ومبادئ واعية وتوزعون أعماقكم المشعة على الأجيال التي تؤسسونها بجماليات، فتتناغمون مع ما هو كائن وما يكون بإنتاجية وتفاعلية وصدق طفولي ترونه في ضمائركم ووجوه الأطفال، جميع الأطفال.