السائحة الصينية بين أزقة حلب التراثية
حلب-غالية خوجة
تبدو بملامحها الصينية المتفائلة مستغربة بين ما تراه في الواقع وما أوصلته إليها وإلى العالم وسائل الإعلام المعادية، فتجول بعينيها حواليها، وهي جالسة بكل طمأنينة وأمان على كرسي في مقهى مطلة على قلعة حلب، تشرد قليلاً، وتتأمل كثيراً، كأنها تسمع كلماتنا وأصواتنا وحجارتنا وطهارة سمائنا تقول: لم تفتقد سورية شهداءها لأنهم أحياء، ولم تفتقد القلوب حنينها رغم أن بعض المساكن المهدمة في حلب افتقدت ساكنيها نتيجة الحرب والزلزال، لكن أنقاضها ما زالت تحتفظ بذكرياتهم وأصواتهم الغائبة وآلامهم الحاضرة التي تلفت العابر إليها بشدة فيراها في كل شيء، في لون السماء والورود والأنقاض وضحكات الأطفال والأعشاب الذهبية الملفوحة بأشعة الشمس.
أنظر إلى ملامح السائحة الصينية المطمئنة لينغ كاي من شنغهاي التي صادفتها في إحدى جولاتي حول القلعة، فأقترب منها، أحييها، وأستأذنها للجلوس معها ومحاورتها، فترحّب بابتسامتها الجميلة، وتخبرني بأنها ترتاح قليلاً لتواصل جولتها التي بدأتها من دمشق إلى حلب ثم إلى حماة، وستعود من دمشق إلى موطنها الصين.
بين مرح الأطفال، وتجوال الكبار، وأحاديث الجالسين في المقاهي وعلى الكراسي الحجرية وعلى سور القلعة، يتذكر الإنسان كيف افتقدت حلب العريقة حركتها الزاخمة بالزوار والسياح العرب والأجانب في تلك الفترة التدميرية، لكنها لم تتخلّ عن جاذبيتها لهم، هي المعتادة على تجوالهم وثقافتهم وسعادتهم، وها هي، ومنذ الانتصار، تستقبل من يقصدها بمحبة وطيبة وكرم، وهذا ما أكدته السائحة الصينية الشابة لينغ كاي رغم تعبها من تجوالها مشياً، ومن شدة الترحيب بها بلطف والتقاط الصور معها كما أخبرتني، فسألتها عن انطباعها؟
فأجابت: الناس لطفاء جداً، ويبدو أنهم يتجاوزون الأزمة والحرب والزلزال بإرادة جميلة، على عكس الخراب والتعاسة والدمار التي تصلنا عبْر بعض الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي.
تناولت الشابة كأس عصير البرتقال من عامل المقهى الذي يتحدث الإنكليزية، وتابعت: تصورت مع الناس كثيراً “سيلفي” وصوراً عائلية، والجميع أعطاني ضيافة من بسكويت وحلوى وطعام، إنهم أناس جميلون ومساعدون وطيبون، لكنني لاحظت أن عدد المتحدثين بالإنكليزية في دمشق أكبر من عددهم في حلب.
وعندما سألتها ما الفرق بين شنغهاي ودمشق وحلب؟
أجابت: أحب طعامنا الحار جداً، وشعرت بأن دمشق أكثر ضجيجاً من هنا وأقرب إلى أوروبا، بينما حلب فمزيج هادئ.
ترى، هل زرت المتحف والأماكن الثقافية؟
بابتسامتها المريحة، أجابتني: هذه زيارتي الأولى لسورية، وجئت لرؤية الآثار ما بعد الحرب والزلزال، وليس لدي وقت لزيارة هذه الأماكن، وبكل تأكيد، أحب المتاحف والثقافة، ولربما أزورها في المرات القادمة، ولدينا متحف شنغهاي الأثري بطريقة معاصرة، ويضم الآلاف من آثار الفن الصيني القديم مثل البرونزيات والخزفيات وفنون الخط الصيني واللوحات والتماثيل والقطع النقدية القديمة.
وأضافت: أنا سعيدة جداً، وأتمنى أن يزور العالم سورية التي تحبنا ونحبها، وأتمنى أن يزور السوريون الصين.
بكل تأكيد، نحن نحب الصين والشعب الصيني، ونزوركم وسنزوركم، قلت لها، وأضفت: من فضلك، إذا كنت بحاجة لأي شيء فنحن جاهزون.
ضحكت قائلة: أعرفكم.
وازداد فرحها عندما اقترب منها بائع القهوة الجوال وهو يضيفها فنجاناً من القهوة مجاناً، فشكرته مجيبة: شكراً، لكنني لا أريد أن أشرب قهوة الآن.
ثم طلبت الحساب، وكان أن سامحها عامل المطعم بجزء من المبلغ، وبينما ألتقط لها الصور، اقترب المتواجدون في المكان وتصوروا معها وهي تبتسم بمودة، ثم أخبرتني أنها ستقضي وقتها المتبقي بين المعالم الأثرية القريبة مثل خان الشونة والقصيلة لترى آلام الأبنية وتصورها كما حكت لي، وتقترب من حياة أهل حلب ومعاناتهم ومحبتهم للحياة والزوار.
وكان أن واصلت جولتي وفي ذاكرتي تتماوج صور الكثيرين من الزوار من ألمانيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا والسويد والوطن العربي، الذين رأيت أعدادهم الكبيرة تنزل من الباصات وتدخل بلهفة إلى خان الوزير وتتجول في أسواق المدينة والمساجد والكنائس والمدارس والأزقة، كما لا تنسى الشجرة القريبة من باب القلعة الرئيسي كيف صادفت يوماً شابة ألمانية تقرأ في كتاب عن آثار حلب، لأكتشف أنها طبيبة قادمة للتعرف إلى عراقة الشهباء، تماماً، مثل هذه الشابة الصينية التي ستظل ملامحها وذكرياتها كملامح أهل حلب والزائرين وذكرياتهم حاضرة بين قلعة حلب الشامخة وأسلاك المباني وحجارتها المتدلية بأبجدية روحانية، وبين سوق الحرير والخانات التي تروي حكاياتهم وحكاياتنا، تلك التي عاشت معها هذه الزائرة الصينية وأمثالها من كافة دول العالم.