تجريبية عبد الفتاح قلعه جي المسرحية بين الواقعية التفاعلية والرمزية الصوفية
حلب- غالية خوجة
قبل ميلاده السادس والثمانين بخمسة أيام توفاهُ الله تاركاً أعماله لتكون مراجع مسرحية على مرّ الأزمنة، هو الذي احتفى بمدينته حلب وشخوصها، كما احتفى بدرامية الإنسان المحلي والعربي، وكتب في عدة مجالات بين تأليف ونقد ودراسات وتحقيق وتوثيق وشعر ومسرح حواري شعري منها “مولد النور/ 1971” و”القيامة”، وكان هاجسه المسرح، لماذا؟..
لأن عبد الفتاح رواس قلعه جي رحمه الله وثق بالمسرح منصة من الحياة وللحياة، وبقدر ما تكون هذه المنصة مؤسّسة على الوعي الإنساني المناسب بقيمه وتحولاته المعاصرة وكيفية إيصال رسالته بفنية وإبداعية، بقدر ما تصل إلى القلوب المتفاعلة التي تنجذب إلى الجاد المختلف، لذلك، لم تكن رائجة عبارة “هذا ما يريده الجمهور” لدى الأديب الراحل عبد الفتاح قلعه جي وأمثاله، لأنهم مدركون أن المتلقي شريك فعلي، ولديه ذائقة فعّالة ووعي عازل بين المفيد والضار والجميل والقبيح.
ومن أهم الثيمات المتضافرة في أعماله ارتكازه على التراث وذاكرته الشعبية المحلية والعربية وتقديمها بكيفية كلاسيكية وتجريبية حداثية، مما يجعلنا ندخل إلى “أسواق حلب” مثل رحالة ستعرف من كتاباته كل ما يدور في هذه الأسواق من متن ومعنى ومبنى، وما بينها من علائق إنسانية واجتماعية وتجارية واقتصادية ومكانية وحياة يومية وتأريخ يفرش ظلاله بين الدكاكين والحجارة والناس، وكذلك، عندما يدعونا إلى حفلة “العرس الحلبي” بطقوسه وعاداته وتقاليده ومسمياته وخلفياته الفلكلورية، لنشعر بأننا أحد المشاركين في هذا العرس الذي تحوّل كالعديد من أعماله إلى عمل مرئي تلفازي، إضافة إلى ما قدمه للإذاعة، وما عمل عليه منذ مسرحيته الأولى “الفصل الثالث/1971- 1969″، وصولاً إلى عمله التاسع والتسعين “البوابة 7 مسرحيات” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، إضافة لحضور أعماله في الساحة الثقافية العربية عروضاً وفكراً وإصدارات ومنها الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة، ومشاركته في الكثير من المهرجانات والندوات المحلية والعربية والدولية، ونيله العديد من التكريمات والجوائز.
ومما يواسينا أن الكلمة التي تفيد الناس تمكثُ في قلوبهم وحياتهم، وهي حال الإنتاجات الإبداعية التي يرحل مؤلفوها جسداً وهي سنّة الله في خلقه، لتبقى آثارهم الجميلة وكلماتهم المفيدة.
ترى، ما أهم الثيمات الموضوعية والفنية التي تميّزت بها النصوص المسرحية في أعمال الراحل عبد الفتاح قلعه جي؟ وإلى أي نوع من المتلقي يتوجه في مسرحياته وكتاباته الأخرى؟.
هذا ما أجاب “البعث” عنه كتاب ونقاد وأدباء ومخرجون مسرحيون هم د. حمدي موصلي، د. هيثم يحيى الخواجة، د. وانيس بندك.
في حضرة غياب شيخ المسرح العربي
أجابنا د. حمدي موصلي الكاتب والناقد المسرحي والمخرج: يشكل المسرح الجانب الأكثر أهمية في نتاجات القلعه جي في البحث والإبداع، إذ إن له في إنجازات أخرى مؤلفات في الشعر وخاصة الشعر الملحمي، وفي الفكر والتراث والدراسة والتراجم وقصص الأطفال والرواية الصوفية وموسوعات المدن والمقابلة الصحفية، عدا عن البحوث الجادة الموزعة في الصحف والمجلات السورية والعربية، وتميّز نتاجه الخاص بالمسرح بالبحث المسرحي والدراسة أولاً، وبالنقد المسرحي النظري والتطبيقي ثانياً، وبالتأليف بالنص المسرحي ثالثاً.
واسترسل: أما أهم سمات مسرحه فهي: (1)ـ الإنسان هو محور الخطاب في مسرحه، إليه يتوجّه لينهض مدافعاً عن أمنه وحريته ولقمته وحقه بالعيش الحر، فالإنسان لديه هو مركز الوجود، (2)ـ مسرحه يتميّز بالجرأة والشراسة، فهو يدين بعنف ظلم الإنسان وظالميه، والفساد ورجاله، وقد وجد بالصورة السوريالية والمشهد المصوغ على منطق الحلم وفي الكوميديا الساخرة مجالاً رحباً للانتقام كما في مسرحياته (صناعة الأعداد)، و(هبوط تيمورلنك)، (3)ـ هو مسرح إرهاصي غالباً، يستبق الحدث بالقراءة الواعية الداخلية للأمور والاستشعار الذاتي، كما تنبأ في مسرحيته (هل قتلت أحداً؟) دعاوى الأيديولوجيات الوضعية الزائفة، وتنبأ في مسرحيتيه (اختفاء وسقوط شهريار) و(مدينة من قش) بسقوط رموز السلطة الظالمة واحتراق مدن القش القائمة على الفساد، كما تنبأ في مسرحية (السيد) بزحف العولمة المتمثلة بالوحش ذي الرؤوس الثلاثة، إذن، هو مسرح عربي، تجريبي في غالبه، يحنّ إلى التأصيل تارة عبر التجريب، فينهل من التراث ويتعامل معه كمادة متحركة ـ لا مادة خام ساكنة ـ بخط موازٍ مع المعاصرة وبحرص على حداثة الرؤى المعالجة بعيداً عن الدمج بين مفهومي الحداثة والمعاصرة بخطين متوازيين.
وتابع د. موصلي: أما النهج الذي اختطّ وسار عليه القلعه جي في استلهام التراث فيمكننا تلخيصه كالآتي: (1)ـ اتجه القلعه جي إلى التراث ليمارس بعداً أنطولوجياً بعيداً عن الحنين إلى التراث كشرط ضروري وحاسم يرتبط بوجود المسرح العربي ذاته، هذا المسرح الذي واجه الاختيار (الهامليتي) الصعب “نكون أو لا نكون”، و(لم أوافقه بهذا الزعم لأن المسرح العربي مازال جنينياً يحبو!)، (2)ـ في هذا التوصيف يرى القلعه جي المسرح العربي الأداة التي تحقق نوعاً من التواصل الفني الذي لا يتجاوز الطرح المباشر للقضايا، وهذا شأن العديد من المبدعين الذين تعاملوا مع النص التراثي، إلا أنه زاد عليهم تركيزه في تحقيق عملية (التأثر) والتأثير والجمالية كما في مسرحية (هبوط تيمورلنك) و(البوابة)، (3)ـ لم يستفد من الحادثة التاريخية بشكلها (الفوتوغرافي)، وإنما ألبسها الرمز ودمجها في الحدث المعاصر، وبهذا يمتد خيط التاريخ ليصل إلى الوقت الحالي عبر دلالات إحصائية وأخرى فنية، (4)ـ كما استمد القلعة جي شحنة خطابه المسرحي من المرئي التاريخي دون التوغل فيه، لأن الفعل موجّه من الخارج، ليفسح المجال للواقعية ولمتواليات الحياة، كما في مسرحية (دستة ملوك يصبون القهوة)، و(حرجلّة).
واختتم د. موصلي: أخيراً ما قلته هو مجرد قليل في إبداع كاتبنا وشيخ المسرح العربي، وأفتخر بهذا اللقب الذي أسبغته عليه في ندوة تكريمه في حلب قبل ربع قرن، صديق وأخ ومعلم أخذت عنه الصياغة وآلية البحث ومارست النقد بإشرافه، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
رمزية ممتعة
ورأى د. وانيس بندك الكاتب والممثل والمخرج أن المرحلة الطليعية في مسرح عبد الفتاح قلعه جي تميّزت بكثافة الرموز الفكرية المجردة وجرأتها في الدلالة، وبغرائبية المكان والزمان وطبيعة العلاقات بين الشخصيات الرامزة، وباهتمام كبير في إنجاز سينوغرافيا مدهشة دالة تؤمن المناخ الملائم الذي تتكامل فيه عناصر العرض لتكون جميعاً في خدمة المضمون.
وأضاف: في مسرحياته التالية ذات الطابع الجماهيري، والتي يغلب على بعضها الطابع الكوميدي الساخر، لم يتخلّ عن الرمز، وإن أصبح أقل كثافة وغموضاً، لأنه خرج من المجرد إلى المجسّد التاريخي من خلال الشخصيات والأحداث التاريخية، والنسق العام في جميع مسرحياته يبقى نسقاً تجريبياً يحفل بالمغامرة والروامز الدالة، وإذا كانت مسرحياته الأولى، الطليعية، نخبوية، فإنه عرف في مسرحياته التالية كيف يصوغ رموزه ليجعلها أكثر امتاعاً وجاذبية، وفي متناول جميع مستويات الإدراك لدى الجمهور، كما أن مسرح القلعه جي يبقى بنية سيميائية رامزة تخضع وحداتها الإشارية من حيث التلازم بين الدال والمدلول لأحكام أنساقه التجريبية.
عاشق للتراث والانسجام والتناغم
بينما أكد الكاتب والناقد السوري د. هيثم الخواجة المقيم في الإمارات على تميز قلعه جي ككاتب مسرحي ليس في سورية فقط، وإنما في الوطن العربي أيضاً، وأضاف: لقد أخلص للمسرح عمره كله، وكتب نحو 100 نص مسرحي إضافة إلى بحوثه في التراث والمسرح ودراساته ومسرح الأطفال والشعر، إنه كاتب شمولي آمن بأهمية وضرورة المسرح في حياتنا المعاصرة، ولهذا، فهو صاحب مشروع مسرحي فاعل ومؤثر لكونه ينتمي إلى إنسانية الإنسان، وينحاز إلى إنصافه، أحبّ المسرح وعشق التراث وقرض الشعر وساهم مع من ساهموا في التأصيل للمسرح، مما جعل تجربته المسرحية ثرة وغنيّة، ولم يترك مهرجاناً للمسرح إلاّ وشارك فيه، وخاصة مهرجان دمشق المسرحي ومهرجانات حمص وحماة والرقة، وهو يؤمن بنظرية الانسجام والتناسق والتناغم وتوصيل الأفكار بأسلوب غير مباشر.
وتابع د. الخواجة: كلّ ذلك يتضمّنه إبداعه المسرحي ليكون مهاداً صلباً ليس للنجاح والتفوق فقط، بل وإنما للتأثير على المتلقي وتحقيق الأهداف، كما يؤمن بالمسرح التجريبي والفرجة المسرحية بغاية التأصيل المسرحي الذي هو هدف من أهدافه المسرحية، ومنها تمثيلاً لا حصراً مسرحية “عرس حلبي”، و”مدن من قش”، و”اختفاء وسقوط شهريار”، لقد تمسّك بالكتابة المسرحية حتى الرمق الأخير، وكان شاغله المسرحي أن يقدم الجديد والمبتكر والإنساني بعيداً عن أية أيديولوجيا، ولقد أبدى فرسان المسرح من مخرجين ومؤلفين ونقاد إعجابهم بنصوصه المسرحية وما تطرحه من أسئلة استفزازية تدعو إلى التفكير والتأمل، إضافة لاهتمامه المختلف بالتراث والتأريخ، ويبقى الوعي الجمالي العربي المحور الذي يصرّ على وجوده في كل نص مسرحي، كما أنه لم يتخلّ عن الموضوع الوطني والقومي، تماماً، كما لم يتخلّ عن القيم الإنسانية التي تتمركز في حب الإنسان، لأنه كان يؤمن بأن الحب هو الأيقونة التي تتضمن سرّ الاستمرار والوجود الإنساني، وبناء على ذلك وقف ضد القهر والظلم والحروب والإرهاب.
وأضاف د. الخواجة: أحبّ مسرح اللامعقول واعتمده في بعض مسرحياته، كما نلحظ في شعره وبعض دراساته وبحوثه توجهاً صوفياً ونفحات صوفية كما في ديوانه الشعري “القيامة”، وكتابه عن العلاّمة خير الدين الأسدي، وكتابه عن عماد الدين النسيمي، وكتابه عن الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي، وليس أخيراً، عبد الفتاح قلعه جي مسرحي عربي كبير، وصديق رائع لإنسانيته وتشجيعه للإبداع وإيمانه بأن الساحة تتسع للجميع، وأن المواربة والتلاعب والمواقف الملوثة لا تهمّ المبدع الإنسان الذي هو أكبر من ذلك بكثير.
الواقعية المتناغمة جمالياً
وهكذا، نستنتج أن مسرح عبد الفتاح قلعه جي عالم حياتي واقعي متناغم بين الرمزية والتجريبية والسوريالية والصوفية، وجميعها فنيات موظفة لاستكشاف الإنسان واستشراف الذاكرة الفلكلورية والتراثية والمستقبلية، تضيء اليوميات المعاشة وتفاصيلها وكينونتها وأحلامها والحياة النابعة من الحياة والمنعكسة من المنصة ضمن قيم مستمرة في الحضور والحياة وبناء الإنسان.