دراساتصحيفة البعث

“جائزة” حماية كبرياء واشنطن.. قنابل عنقودية إلى أوكرانيا

عناية ناصر

يكشف قرار واشنطن بإرسال الذخائر العنقودية إلى أوكرانيا على شكل قذائف مدفعية عيار 155 ملم تحتوي على مزيج من الذخائر الصغيرة المضادة للأفراد والمضادة للمركبات، والمعروفة باسم ذخائر تقليدية محسنة ثنائية الغرض، الكثير عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة من حيث قوتها العسكرية، وطموحاتها الجيوسياسية للهيمنة، والتزامها بنظامها الدولي “القائم على القواعد”.

حظرت العديد من الدول الذخائر العنقودية حول العالم، بما في ذلك غالبية حلفاء واشنطن في أوروبا، وذلك بسبب الطبيعة العشوائية لتلك الذخائر، والخطر المستمر الذي تشكله بعد فترة طويلة من القتال في أي ساحة معركة معينة.

على عكس طلقات المدفعية التقليدية، التي تنفجر عند الوصول إلى هدفها، تنثر الذخائر العنقودية العديد من القنابل المتفجرة الصغيرة عبر ساحة المعركة. حتماً، تفشل نسبة مئوية من هذه القنابل الصغيرة في الانفجار كما تمّ تصميمها، وتبقى خطراً قاتلا ًللجنود على جانبي الصراع حتى ينتهي. علاوة على ذلك، فإنها تبقى تشكل خطراً على المدنيين الذين قد يمشون أو يقودون السيارة عن غير قصد فوق الذخائر غير المنفجرة لسنوات قادمة.

إرث من الوحشية

إن استخدام الولايات المتحدة المكثف للذخائر العنقودية كان منذ زمن بعيد خلال حرب فيتنام، وقد تمّ استخدام القنابل العنقودية مؤخراً في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي فصاعداً. كما أن استخدام الولايات المتحدة للذخائر العنقودية واسع للغاية لدرجة أنه يمثل أكبر مثال إثارة للقلق على سبب حظر العديد من الدول لهذا النوع من الأسلحة في المقام الأول. خلال حرب فيتنام، ألقت الولايات المتحدة ملايين الأطنان من القنابل على فيتنام ولاوس وكمبوديا، بما في ذلك كميات كبيرة من الذخائر العنقودية، وملء المنطقة بذخائر غير منفجرة. على سبيل المثال، حتى يومنا هذا، هناك ذخائر غير منفجرة أكثر من البشر في لاوس، بمعدل أكثر من 8 لكل رجل وامرأة وطفل.

لا تزال الذخائر غير المنفجرة تقتل أو تشوّه عشرات الأشخاص كل عام في دول مثل فيتنام ولاوس وكمبوديا، ولقي الآلاف حتفهم أو أصيبوا بإعاقات خطيرة منذ انتهاء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في عام 1975. بالإضافة إلى ذلك أثبتت الذخائر غير المنفجرة أنها تشكل عقبة أمام التنمية الإقليمية، على سبيل المثال، عندما شيّدت الصين أول خط سكة حديد عالي السرعة في لاوس، يربط مدينة كونمينغ جنوب الصين بعاصمة لاوس في فينتيان على الحدود مع تايلاند، كان المطلوب من المهندسين في البداية إخلاء مسار السكك الحديدية من الذخائر غير المنفجرة التي أسقطتها الولايات المتحدة، بما في ذلك الذخائر العنقودية.

تشير التقديرات في كمبوديا إلى أن ما يقرب من 20000 شخص خسروا حياتهم بسبب الذخائر غير المنفجرة، بما في ذلك الذخائر العنقودية، على مدى العقود الأربعة الماضية. وهذه القضية حساسة للغاية في كمبوديا لدرجة أن رئيس الوزراء هون سين، حثّ الولايات المتحدة بشدة على عدم نقل الذخائر العنقودية إلى أوكرانيا.

من المهمّ ملاحظة أن رئيس الوزراء هون سين أعرب عن دعمه لأوكرانيا منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في شباط 2022. وعلى الرغم من هذا الدعم، إلا أن مخاوفه ومعارضته لنقل الذخائر العنقودية الأمريكية إلى القوات المسلحة الأوكرانية تهدف إلى تجنيب الشعب الأوكراني المعاناة المستمرة التي ألحقتها الذخائر العنقودية بكمبوديا على مدى العقود العديدة الماضية.

يأس خطير

يُظهر الصراع الدائر في أوكرانيا خصائص حرب الاستنزاف، التي تتميّز بقتال مكثف في المواقع التي تتطلب استخدام كميات كبيرة من ذخيرة المدفعية وغيرها من الأسلحة بعيدة المدى. مع تقلص موارد الأسلحة التي كانت من حقبة الاتحاد السوفييتي، والتي استخدمتها أوكرانيا في بداية الصراع  بشكل تدريجي  واختفائها من ساحة المعركة، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى استبدالها بما يعادل عيار 155 ملم من قبل الناتو. ومع ذلك، فقد ركز الإنتاج العسكري الصناعي الجماعي للغرب على مدى العقود العديدة الماضية على تعظيم الأرباح وسط سلسلة من “الحروب الصغيرة” التي خاضت ضد جيوش تفوقت عليها بشكل مؤسف في الدول النامية أو الفاشلة ، بدلاً من المنافسين أو شبه الأقران مثل روسيا.

نتيجة لذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها إنتاج عدد قذائف المدفعية التي تحتاجها أوكرانيا. من ناحية أخرى، ورثت روسيا وحافظت على إنتاج عسكري صناعي كبير من الاتحاد السوفييتي. اعترفت وسائل الإعلام الغربية أن أوكرانيا تطلق ما بين 4000 إلى 7000 طلقة مدفعية في اليوم، وبسبب الإنتاج المنخفض لقذائف المدفعية في الغرب، لن تتمكن أوكرانيا في النهاية من الحفاظ على معدل إطلاق النار الحالي، وسيستغرق إنتاج قذائف المدفعية الغربية عدة سنوات لمواكبة معدل إطلاق النار الحالي في أوكرانيا.

عملت الولايات المتحدة على نقل الذخائر العنقودية، ليس لأنها تزوّد أوكرانيا بأي قدرة ضرورية، ولكن ببساطة لأنها الخيار الوحيد المتاح للولايات المتحدة، بغضّ النظر عن التكاليف البشرية المحتملة في الحاضر والمستقبل. إن حقيقة أن الولايات المتحدة تنقل ذخائر عنقودية إلى أوكرانيا بسبب النقص الحاد في الذخيرة قد أوضحها الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه عندما اعترف بأن “ذخيرة الأوكرانيين تنفد” رداً على سؤال حول قرار تزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية.

وبالتالي، فإن نقل الذخائر العنقودية المحظورة على نطاق واسع إلى أوكرانيا ليس قراراً يتمّ اتخاذه بعناية، مع الأخذ في الاعتبار المعاناة المستمرة التي سيواجهها الشعب الأوكراني لفترة طويلة بعد انتهاء القتال، بغضّ النظر عن النتيجة. وبدلاً من ذلك، يتمّ اتخاذ القرار بسبب يأس واشنطن لإدامة حربها بالوكالة مع روسيا، خشية أن تعترف بالهزيمة.

بالنسبة لـ”جائزة” حماية كبرياء واشنطن، حتى ولو مؤقتاً، وتأخير الهزيمة الحتمية لوكلاء واشنطن في أوكرانيا، ستتحول أوكرانيا إلى “فيتنام” أو “لاوس” أو “كمبوديا” أو “عراق” أخرى، أي دولة مدفونة في ذخائر عنقودية ستقتل حتماً آلاف المدنيين بعد فترة طويلة من توقف القتال.

تعلن الولايات المتحدة أن أفعالها وتصرفاتها في جميع أنحاء العالم بما في ذلك أوكرانيا تهدف إلى دعم النظام الدولي “القائم على القواعد”، لكن من الواضح أن نقل الذخائر العنقودية يقوّض أي أمر من هذا القبيل، فواشنطن تتخذ هذا القرار على وجه التحديد لأن طموحاتها الجيوسياسية للهيمنة تفوق بكثير الوسائل العسكرية لتحقيقها.

في نهاية المطاف، لن يجعل قرار الولايات المتحدة بنقل الذخائر العنقودية أوكرانيا أو الولايات المتحدة نفسها أقوى عسكرياً، كما أنه لن يساعد الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في أوكرانيا، ولن يعزّز القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة، إنه مجرد مماطلة من قبل مهيمن يتلاشى، ويكشف عن نفاقه بينما يخلق المزيد من الضحايا لحساب أعدادها اليوم وفي المستقبل.