أفراح الشباب السوري تنكمش.. عادات وتقاليد مكلفة تزيد الأمور تعقيداً!
دائماً كانت أمنية الآباء والأمهات وما زالت هي رؤية أبنائهم سعداء في عشّ الزوجية، فهي فرحة العمر بالنسبة لهم، ولأجلها كانوا يدّخرون كلّ ما يستطيعون لإتمامها على أكمل وجه، وقبل عشر سنوات خلت كان السوريون من ذوي الدخل المحدود يتفنّنون بإقامة الأعراس في أفخم المطاعم والفنادق وصالات الأفراح، ودائماً ما كانت عامرة بأطيب وأشهى المأكولات على أنغام مطربين شعبيين تركوا بصمتهم في الغناء الجبلي الشعبي.
للأسف اليوم وفي ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة تلاشت صورة الأفراح إلا للمقتدرين مادياً، فهؤلاء يقيمون حفلات أسطورية في فنادق الـخمس نجوم ولا يهمّهم صرف أو هدر مئات الملايين!.
هي حالة اجتماعية فرضتها حرب السنوات العشر التي ضيّقت الخناق على الشباب السوري وجعلت أحلامهم بتكملة “نصف دينهم” أمنية بعيدة المنال في ظلّ غلاء مستلزمات الزواج وصعوبة تأمين البيت، بل وحتى استئجاره، فأسعار البيوت خيالية وإيجارها بأرقام غير مسبوقة لا يقدر على تحملها العرسان الجدد. لذا لا عجب أن يتحوّل يوم الفرح إلى كارثة مادية تطيح بأحلامهم المستقبلية وتستنفد نقودهم ومدخراتهم التي لم يعد لها قيمة أمام انخفاض القيمة الشرائية لليرة.
تكافل اجتماعي
في تفاصيل طقوس الأعراس السورية نجد أنها ذات عادات وتقاليد تختلف من منطقة إلى أخرى، فالاحتفال بالزفاف قد يدوم لأكثر من أسبوع كما في المنطقة الشرقية، يتخلله يوم حنّة للعروس، وآخر لتوديعها وفيه تكثر المعازيم من أقاربها وأصدقائها الذين بدورهم يشكلون عبئاً، ثم تأتي ليلة التحضير للزفاف، وهناك عادات أخرى تُسمّى عند بعض المناطق ملبوس البدن وتحضير الذهب وغيرها من التقاليد التي تحوّلت اليوم إلى حملٍ ثقيلٍ على العريس نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وبين التقاليد والأعراف والحفاظ عليها وقوة التغيير الناتجة عن الوضع المادي المتراجع، بيّن الباحث الاقتصادي الدكتور فادي عياش أنه رغم الظروف الاقتصادية الصعبة ما زالت بعض العادات والتقاليد تتحكم بطقوس الأعراس، مشيراً إلى أن البعد الاجتماعي للعرس هو مناسبة للفرح ببداية جديدة لتكوين أسرة وامتداد للعائلة، وفي البعد الشرعي يمثل العرس حالة إشهار حيث تقتضي الأعراف والتقاليد أن يكون الزواج بشهود وإعلام المحيط للحفاظ على العلاقات الشرعية، ومن هنا –برأي الدكتور عياش- جاءت ضرورة إقامة الحفل، لكن البعض يغالي بفعل الإنفاق ليتحوّل الحفل إلى استعراض مادي بحت. كما بيّن أنه في السابق كان حفل الزفاف يحمل مفهوم التكافل الاجتماعي، أي لم يكن هناك مشكلة إنفاق لأن الحفل يقوم به أهل الضيعة أو البلدة أو المنطقة ويشارك الجميع فيه بتقديم مساعدات للعروسين كالهدايا العينية “براد، غسالة، فرن…” وغيرها من احتياجات العروسين وهي ليست فكرة مرتبطة بمجتمعنا دون غيره، فيما هناك مجتمعات تتكفل بصنع منزل للعروسين وغير ذلك، وفي بعض المناطق لدينا تعتمد حفلات الزواج على ما يُسمّى “النقطة” أي دفع مبالغ مالية من الأهالي والأصدقاء والأقارب للعروسين، وأن الجميع يساهم حسب قدرته وإمكاناته وبما يستطيع تقديمه دون أن يكون هناك مقابل أو ردّ جميل أو فضل لأحد على أحد، وهذه الصورة تبدو الأكثر مثالية في معنى العرف والتقاليد.
عادات جديدة
ومع تغيّر الوضع الاقتصادي للمواطن تغيّرت اتجاهاته وتقهقرت الأعراف والتقاليد لتحلّ محلها عادات جديدة فرضت نفسها على المجتمع، فما كان ممكناً في السابق أصبح الآن شبه مستحيل، ويوضح الدكتور عياش أن تطور الحياة بشكل سريع شوّه الأعراف وأخذها إلى بعد مادي بحت، ولم تعد المسألة مسألة تكافل اجتماعي بل تحوّلت الأفراح إلى نوع من التعالي الطبقي والتفاخر بين الناس واستعراض القدرات المادية للعريس، وفي الوقت نفسه تراجعت القدرة على إقامة هذه الحفلات عند البعض الآخر، وهو مؤشر لفارق طبقي في المجتمع، وهذا طبعاً من مفرزات الحرب، وقد شوّهت هذه المظاهر حالة التقاليد والأعراف الجميلة، حيث تراجعت فكرة التكافل الاجتماعي لأن الكثيرين غير قادرين على تحقيقها، وأصلاً لا تكفي مصاريف تلك الحفلات، لذلك يجب عقلنة الأمور واتباع سلوك رشيد من كلّ الأطراف لنحافظ على هذه التقاليد، حيث اتجه الأغلبية إلى الحفلات الصغيرة المقتصرة على الإخوة والأخوات من أجل البعد الشرعي وهو “الإشهار”.
استعراض ومنافسة
القبول بالمتغيّرات ضرورة لا بدّ منها بشرط الحفاظ والتمسّك بالأصول والأعراف المهمّة التي شوهتها مظاهر الترف المبالغ بها والصرف غير المبرر لتلك الحفلات. في هذا الجانب ترى أستاذة علم الاجتماع الدكتورة رشا شعبان أن الحفاظ على تقاليد الأعراس والواجبات الاجتماعية لا يمكن تحقيقه في ظل المتغيرات السريعة والكثيرة للواقع الحالي، حيث ابتعدت حفلات العرس عن مفهومها الحقيقي لتتحول إلى مناسبة لتسخيف الأمور وتحويلها لمناسبات أشبه بحفلات الاستعراض والرقص وغيرها، واعتمادها على الإسراف غير المنطقي وغير المبرّر، مؤكدة أن التوجّه نحو البساطة هو الحلّ الأمثل، حيث يمكننا أن نحافظ على تقاليدنا من دون اللجوء للنفاق الاجتماعي والمنافسة بالتبذير، بطرق موضوعية أكثر، ويمكننا التخلي عن بعض التقاليد غير المهمّة كملبوس البدن الذي يكلف العريس مبالغ أكثر من العرس نفسه لأنها عادات لا تتماشى مع إيقاع الحياة الجديدة.
الموضوعية والعقلانية
وترى شعبان أن الموضوعية والعقلانية في سلوكنا هما العامل الأهم في هذه التحديات التي نواجهها، فالحفل البسيط يفي بالغرض كما لو أنه تمّ في فندق كبير وضخم ويريح العروسين من أزمة النفاق حتى لو كانا مقتدرين، فالبساطة لا تتنافى مع التقاليد.
تشجيع الشباب
وفي بعض الحالات قد نرى بعض الأهالي يتعصّبون لفكرة التقاليد مثل شراء الذهب والملبوس وغيرها، وهذا برأي الدكتورة شعبان يمثل خطراً كبيراً على جيل الشباب لأنه سيبعدهم عن فكرة الزواج، والمطلوب –بحسب شعبان- تسهيل الفرص أمام الشباب وتشجيعهم على السلوك الطبيعي والمنطقي والبحث عن الاستقرار والزواج بدل انحرافهم لطرق أخرى، ولا بدّ من التأكيد أن كلّ تلك المظاهر من ترفٍ وغيرها لا تنتمي للتقاليد أبداً وإنما هي مفاخرة واستكبار على الآخر، لذلك لا بدّ من التوجه نحو البساطة والممكن وليس تعقيد الأمور وجعلها مستحيلة.
ميادة حسن