الإدارة الأمريكية تصرّ على نجاحها في القرن الجديد بأدوات القرن الماضي
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
لاحظنا مؤخراً التخبّط المتكرّر في سياسات الإدارة الأمريكية التي قاربت حدّ الصدام مع معظم القوى التي تعتبرها منافساً لها، حيث ما زالت تلك الإدارة غارقةً حتى الآن بسياسات القرن الماضي التي انتهجتها إبان تفكك الاتحاد السوفييتي من خلال ما يعرف بالحرب الباردة، والتي كانت عبارة عن تبريد الجبهات مع روسيا الاتحادية، ولكن بالمقابل فتح جبهات صراع غير مباشرة مع دول أخرى في مناطق متفرّقة من العالم، وبالطبع فإن هذه الصيغة من التعامل لـ”الإمبراطورية” الأمريكية جعل منها قوة متهاوية بفعل الامتداد، وكثرة المعارك والصراعات الفاشلة، وفقد الثقة بها من معظم الشعوب والحكومات على حدّ سواء.
وبعد دخولنا القرن الحادي والعشرين، لاحظنا كيف أن معظم القوى الصاعدة نجحت في قراءة الواقع، والتعامل معه بمنتهى المرونة، فالاتحاد السوفييتي كان يظن أن مجرّد تعميم التجربة الاشتراكية يعني النجاح، أما اليوم فنلاحظ أن تلك القوى ركّزت على العلاقات الاقتصادية لتحقيق النجاح، في مقابل اعتماد الإدارة الأمريكية على نهج القرن السابق من خلال العسكرة وبناء القواعد العسكرية، واختلاق وتغذية الحروب والأزمات، وسرقة الثروات بهدف ضمان هيمنتها على موارد العالم.
لقد عمدت الصين مؤخراً لتوجيه رسائل واضحة للإدارة الأمريكية عبر وزير خارجيتها السابق هنري كيسينجر بأن تطورها أمر حتمي مرتبط بثقافتها وديناميتها التاريخية، ولا يمكن لأي قوة في العالم الحدّ منه أو تطويقه أو احتوائه، وأنها الآن قطب عالمي له كيانه واستقلاله، كما أنها على استعداد لبناء علاقات ثنائية شريطة أن تكون مبنية على التوافق والاحترام المتبادل والتعايش السلمي، رغم سعي تلك الإدارة للمزيد من الضغط والتوتر تجاه الجانب الصيني، حيث وصلت العلاقات إلى حدّ هو الأسوأ.
وحتى كيسينجر نفسه الذي ادعت واشنطن أنه ليس مبعوثاً من قبلها حذّر من نشوب أي حرب بين بلاده وبكين، لأنها بكل بساطة ستكون حرباً مدمّرة لاعتمادها على الذكاء الاصطناعي وستشمل آثار دمارها العالم بأسره. والأمر المؤكّد أن حضور هذا السياسي هو نوع من استخدام الدبلوماسية الشعبية لتهدئة الأجواء بين البلدين، والتي ممكن أن تنقلب نحو حرب بالخطأ بعد حصول مجموعة من الحوادث البحرية والجوية التي من الممكن أن تتطور إلى صراع مرير مع فقدان حسن النوايا بين الطرفين، ويحاول كيسينجر أيضاً تقريب وجهات النظر ومجالات التعاون بين إدارة بلاده والصين حول ملفات متعدّدة مثل أفغانستان وكوريا الديمقراطية الشعبية وغيرها من الملفات، كما سبق زيارة هذا السياسي زيارات لعدد من الوزراء الذين حاولوا بشتى الوسائل التأكيد للصين بأن الإدارة الأمريكية لن تفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على بكين، ولن تصل العلاقات حدّ الصدام، ولكن للأسف فإن هؤلاء لا يعبرون عن رأي أغلبية الساسة الأمريكيين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري المتشبعين بـ”كره الصين” والنظر إليها كخطر لا حلّ تجاهه سوى الصدام، بسبب نمو الصين غير المسبوق في جميع المجالات الاقتصادية والعسكرية والتجارية، ناهيك عن قطاع الذكاء الصناعي الذي يقدر حجمه بأكثر من 16 مليار دولار، وبالتالي فإن أغلبية الحزبين لا يسعيان للتعاون مع الصين ويصرّان على فكرة الاحتواء كإستراتيجية عامة لهما، وهما الآن بصدّد اتباع أساليب جديدة للاحتواء ويأتي في مقدمها تكثيف التحالف مع الدول في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي لخلق اضطرابات بينها وبين الصين، والعمل على استنساخ التجربة الأوكرانية في تايوان، والتعاون مع اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا وغيرها من القوى لخلق المزيد من التحشيد والتوترات السياسية في المنطقة. على المقلب الآخر نجد الصين تكثّف من مناوراتها وتدريباتها، وتمارس سيادتها على أجواء تايوان وبحرها على اعتبارها أرضاً صينية دون أي خوف من التحركات الأمريكية.
ناهيك عن عرقلة المشاريع الصينية كمشروع الطريق والحزام وإظهاره على أنه مشروع لـ”السيطرة على الدول”، ومناهضة النفوذ الاقتصادي لبكين في أمريكا اللاتينية وإفريقيا بجميع الوسائل، إضافة إلى فرض القيود على امتلاكها للتكنولوجيا الحديثة في معظم المجالات العمل على الاستئثار بها من أمريكا وأذنابها، كما لم تخف واشنطن غضبها من الوساطة الصينية في منطقة الشرق الأوسط بين المملكة العربية السعودية وإيران، والتي أرست الاستقرار في المنطقة وأضعفت الدور الأمريكي السلبي فيها لأدنى الحدود، فعمدت الإدارة الأمريكية لنشر الشائعات والتشكيك بجدوى المصالحة ونتائجها على أرض الواقع، مع تخوّف من الدور الديبلوماسي الهادئ للصين ودخوله في ملف القضية الفلسطينية بشكل جدّي ما كشف الوجه القذر للإدارة الأمريكية، وفشلها في حل صراعات تلك المنطقة.
كذلك فإن الدول المعاقبة اقتصادياً من الولايات المتحدة بدأت ترى الصين ملاذاً آمناً بات يشكّل كياناً اقتصادياً دولياً، يتمتع بالعدالة والمساواة والأمان، فأصبحت الولايات المتحدة عاجزة عن مواجهة تلك الدول التي تشكّلت جبهة موحدة تُضاف إليها أيضاً تحالفات الطاقة والغاز مثل “أوبك +”، والتي أصبحت تنشد مصالح دولها بالدرجة الأولى مهما زادت الولايات المتحدة من حدّة إملاءاتها وتهديداتها لتلك الدول، حيث جسّدت تلك الدول بشكل جليّ تعدّد الأقطاب في مجال الطاقة وصبّت قراراتها فيما لا يخدم أمريكا والغرب الجماعي.
بالنهاية، فإن كل المؤشرات تؤكّد العجز التام للولايات المتحدة عن فهم قواعد العالم الجديد متعدّد الأقطاب وتغير القواعد الجيواستراتيجية فيه، وحالة قصور الفهم هذه ستحول المنتصر إلى مهزوم لا محالة وخصوصاً مع رفض إدارتها لنسيان فكرة “السيطرة والهيمنة” التي تمتعت بها فيما مضى، ورفضها لاستخدام نظم أخرى غير الليبرالية الحديثة التي زادت من فقر وجوع واستعباد الشعوب لصالح قلة قليلة تنهب العالم وتسير به نحو الدمار بلا اكتراث، فالمهم لديها هو السطوة على قطاعي “السلاح والاقتصاد” دون أي استيعاب للقوى الصاعدة وعلى رأسها “بريكس و شنغهاي للتعاون” التي نجحت بإدراك الزمان وفهمت قواعده لتقدّم الأنموذج الأكثر قبولاً سواءً من الشعوب التي ترفض حتى اللحظة الانقياد خلف إدارة كانت تستعمرها سابقاً وتدفعها نحو الفقر والمجاعة والديون، وحتى النظم السياسية التي ملّت تسلط، وتدخّل وهيمنة تلك الإدارة على معظم قراراتها بصورة أوصلتها إلى حافة الانهيار.