في العيد 63 للتلفزيون السوري.. هنا دمشق.. أول تلفزيون في المنطقة العربية
أمينة عباس
من سفح جبل قاسيون الذي يطل على ساحة الأمويين، وفي الساعة الثامنة من مساء السبت 23 تموز عام 1960 في ظل الوحدة بين سورية ومصر أعلن المذيع سامي جانو بكلمته الشهيرة “هنا دمشق” عن ولادة التلفزيون السوري الذي احتفل في الثالث والعشرين من الشهر الجاري بذكرى تأسيسه الثالثة والستين بعد أن كانت فكرة إنشائه كما جاء في مذكّرات صباح قباني أول مدير له “كأنها تحليقٌ في الفضاء.. خلال الأيام العشرين التي سبقت موعد افتتاح تلفزيون دمشق راح يتملّكنا أنا وزملائي بعض التوتر الذي كان يزداد كلما اقتربت ساعة ذلك الموعد الذي حددناه بالساعة الثامنة من مساء السبت 23 تموز، وعلى الرغم من ذلك التوتر والقلق كان إيماننا عميقاً بأننا سننجح في اجتياز هذه التجربة الرائدة في حياتنا وحياة بلدنا، فلقد أعددنا لكل شيء عدته، ودققنا في كل تفصيلات ما نحن مقبلون عليه، وراجعنا هذه التفصيلات مرة بعد مرة لأننا كنا نريد أن يكون ما نقدمه منذ إطلالتنا الأولى على الناس جميلاً ومتقناً وراقياً”.. ومن يقرأ هذه المذكرات الصادرة عام 2007 تحت عنوان “من أوراق العمر” سيلمس أنها خير وثيقة عن فترة تأسيس التلفزيون والتي واكبها قباني وخصص لها في مذكراته حيزاً كبيراً تحدث فيه عن أدق التفاصيل التي تخص مرحلة التحضير والاستعدادات لانطلاقته باسم التلفزيون العربي بالتزامن مع احتفالات أعياد ثورة تموز وانطلاق شارة بث التلفزيون المصري في القاهرة في الوقت ذاته.
روح التحدي
يقول أ.صباح قباني في مذكراته أنه يوم عاد إلى دمشق من أميركا في 8 أيار 1960 ولا يفصله عن موعد افتتاح التلفزيون سوى 75 يوماً سارع إلى تفقد الاستعدادات الإنشائية والهندسية والبشرية، فقصد أولاً قمة قاسيون حيث محطة الإرسال والأستوديو الذي قيل له قبل سفره إلى أمريكا أنه في طور الإنجاز “وقد أوفى الزملاء المهندسون بوعدهم وهيأوا لنا مكاناً مناسباً يتيح -رغم ضيق مساحته- إطلاق برامج التلفزيون في مرحلتها الأولى على الأقل” مشيراً في كتابه إلى أن الاستعدادات البشرية كانت مُرضية إلى حد بعيد، وقد أسعده جداً أن أكثر من انتدبوا للعمل في التلفزيون كانوا من زملائه السابقين في الإذاعة أو ممن تعامل معهم خلال عمله مديراً للفنون بوزارة الثقافة، وكان على دراية تامة بمواهبهم وقدراتهم الإبداعية، كما كان على يقين أن هذه المواهب والقدرات يمكن -إذا ما أُحسن توظيفها- أن تتكيف مع الوسيلة الإعلامية الجديدة، وبيَّن أنه بادر إلى عقد اجتماعات عمل يومية متتالية مع هؤلاء الزملاء لبلورة تصوراتهم للنهج الذي يتعين أن يسيروا عليه للوصول إلى التلفزيون الأمثل الذي يحلمون أن يُنجز على أحسن صورة، دون أن يخفي قباني في مذكراته أن العديد من التحديات كانت تواجههم، أولها أن هذا الجديد الذي عليهم أن يقدموه للناس كان شيئاً ضبابياً لا ملامح له ولا أشكال معروفة يمكن أن يسيروا على هداها: “كان أول تلفزيون في المنطقة العربية، وكان لا بد أن نبتكر كل شيء من العدم” أما التحدي الثاني الذي جابههم فهو أن الإرسال التلفزيوني في دمشق سيكون بوقت واحد مع الإرسال في القاهرة، الأمر الذي خلق لديهم الكثير من التوتر والقلق لأن القاهرة تعني تاريخاً فنياً عريقاً ورائداً في المسرح والإذاعة والسينما والفنون التشكيلية التي تُعدّ كلها أعمدة هامة يقوم عليها صرح الفن التلفزيوني، في حين أن سورية حينها لم تكن تملك من هذه الفنون إلا القليل الذي يمارسه بعض الهواة بشكل متقطع: “وهكذا كان علينا أن نمارس العمل التلفزيوني مباشرة دون أن تكون عندنا الأرضية الفنية التي توصلنا إلى المحصلة التلفزيونية التي ننشدها” في حين كان التحدي الثالث يتمثل بعدم توفر أجهزة التسجيل التي يتم عليها تسجيل البرامج قبل بثّها إلى المشاهدين، لذلك كان كل ما يقدمه التلفزيون يجب أن يُبثّ على الهواء مباشرة، وبالتالي لا مجال لتصحيح أي خطأ يمكن أن يحدث، أما التحدي الرابع فكان يتعلق بضيق المكان الذي سيتم العمل فيه والذي يضم الديكورات اللازمة، لتتوالى في نطاقها فقرات البرنامج اليومي واحدة بعد أخرى: “ديكور الأخبار، وإلى جانبه ديكور برنامج الأطفال، ثم ديكور برنامج المرأة وديكور المنوعات، وإذا كان ثمة تمثيلية ستُقدَّم فهذا يعني أنه يجب إزاحة كل هذه الديكورات جانباً بسرعة لتحلّ محلها ديكورات التمثيلية، الأمر الذي يستدعي سلاسة تغيير أجواء الأستوديو وإبدالها من حال إلى حال” إضافة إلى الطريق الوعر الموصل إلى المحطة والذي وصفه قباني في مذكّراته بالكابوس الحقيقي، إذ كان يتوجب أن ينقل من خلاله إلى قمة الجبل كل يوم مستلزمات البرامج من ديكورات وإكسسوارات وأفلام وممثلين ومحدّثين ومذيعين وأطفال وفنيين، وكان الخوف دائماً من ألا تصل عناصر البرامج ولاسيما أفلام الأخبار في الوقت المحدد لها بسبب وعورة الطريق، موضحاً قباني أن كلّ هذه الصعوبات أشعلت فيهم روح التحدي وزادت من إيمانهم بأنهم قادرون على التغلب على أية صعوبة مهما تكن كبيرة، وأنهم سيؤدون المهمة التي أوكلت إليهم كأحسن ما يكون الأداء، وقد كان عددهم يومذاك لا يتجاوز الخمسين شخصاً من مخرجين ومذيعين ومحررين وفنيين وعمالاً وسائقين وكانت رؤيتهم واضحة منذ البداية في أنهم سيقدمون التلفزيون منذ الساعة الأولى على أنه صديق جديد يدخل البيوت أول مرة، لذلك يجب أن يتمتع بمواصفات تجعله موضع ثقة أهل البيت بتقديمه المتعة المهذبة والثقافة الراقية عبر شكل ومضمون مبتَكَرين، فكان أهم ما أطلقه التلفزيون في بداياته مجموعة من الوجوه الجديدة غير المحترفة التي سرعان ما استحوذت على إعجاب الناس الذين تعلقوا بها منذ إطلالتها الأولى عليهم كدريد لحام، نادية الغزّي، وجدان دباغ، فرقة الفنون الشعبية التي تشكلت من شابات وشبان المدارس الثانوية، مؤكداً قباني أنه لم يكن من اليسير إقناع هؤلاء بأن يقبلوا الظهور على شاشة التلفزيون بسبب الريبة التي كانت سائدة حينذاك بين الناس حيال كل ما يتصل بفنون الغناء والتمثيل والرقص، وقد كان من حسن حظ أفراد الفريق أنهم كانوا زملاء سابقين له في الإذاعة السورية أو في وزارة الثقافة أو أصدقاء عرفهم عن قرب وعرف قدراتهم الفنية والثقافية، وهذا سهَّل التحرك كمجموعة متجانسة في رؤاها وحماسها لتأدية المهمة الرائدة التي أنيطت بهم، مشيراً قباني عبر مذكراته إلى أن التلفزيون بدأ بالأسود والأبيض بمدة لا تتجاوز ساعتين يومياً، كما لم يتجاوز مدى إرساله حدود مدينة دمشق، ومن بعدها انطلق قوياً معافى برغم محدودية إمكاناته، وفتح ذراعيه واسعاً للجميع، فأطل من على شاشته دريد لحام الذي كان أستاذاً جامعياً يدرّس الكيمياء، وهيام طبّاع كأول امرأة تطل عبر شاشته في مطلع ستينيات القرن العشرين من خلال برنامج “نادي الأطفال” كما كانت أول مذيعة أخبار في التلفزيون، إلى جانب نادية الغزي المحامية والكاتبة التي كانت من أوائِل المقدمات في التلفزيون، وكانت عناوين البرامج التي رأى قباني أن يبدأ التلفزيون بها هي : البيت السعيد-حدث في مثل هذا اليوم-فكّر تربح-نادي الأطفال-سهرة دمشق-هذا الأسبوع-أذكر هذا اليوم-مجلة التلفزيون-الأيام تدور، وكانت أولى الأعمال الدرامية التي بثها التلفزيون تعتمد على فصول تمثيلية وسهرات مسرحية تُبث مباشرة على الهواء وكان من أبطالها “نهاد قلعي – دريد لحام – رفيق سبيعي -محمود جبر” وكانت تمثيلية “الغريب” التي قدمت عام 1960 إخراج سليم قطايا وبطولة: ثراء دبسي، ياسر أبو الجبين، وبسام لطفي أول عمل تلفزيوني قدم على الهواء مباشرة وتحدث عن الثورة الجزائرية، وتدريجياً شيدت محطات إرسال له في المدن السورية لتغطيتها بالبث التلفزيوني، وفي عام 1978 بدأت تجربة الملون فيه فظهرت بعض البرامج والمسلسلات الدرامية بالألوان، وفي عام 1985 تم إنشاء القناة الثانية في التلفزيون العربي السوري الناطقة باللغة الإنكليزية، وكانت تعرض أغاني ومسلسلات وأفلام عالمية، بالإضافة لبرامج محلية منوعة. وحينها تمت تسمية البرنامج العام الناطق باللغة العربية بالقناة الأولى، وفي عام 2017 قررت وزارة الإعلام إغلاق القناة الأولى في التلفزيون السوري، وقد تم توحيد بث الفضائية السورية والقناة الأرضية، ولدعم الدراما السورية بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها في الوطن العربي بدأت قناة سورية دراما الفضائية بثها التجريبي بداية عام 2009م ليتم بعد ذلك إطلاق عدة قنوات أخرى مثل “قناة التربوية السورية، نور الشام ، الإخبارية السورية”.
د.صباح قباني
يُذكر أن د.صباح قباني من مواليد دمشق عام 1928 نال الإجازة في الحقوق في جامعة دمشق عام 1949 ثم الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة السوربون-باريس عام 1952 بدأ حياته العملية عام 1949 مذيعاً في إذاعة دمشق، وتولى مدير البرامج فيها، وفي العام 1960 أسس التلفزيون السوري وكان أول مدير له، وفي العام 1961 انتقل إلى وزارة الخارجية حيث تولى عدة مهام دبلوماسية، إذ عُيّن قنصلاً لسورية في نيويورك عام 1962 ثم مدير الإعلام في وزارة الخارجية، ومن ثم وزير مفوّض لسورية في أندونيسيا عام 1968 وفي العام 1974 أصبح أول سفير لسورية في الولايات المتحدة بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، واستمر فيها حتى العام 1980.
رحل د.صباح قباني يوم الخميس 1 كانون ثاني 2015 عن سبعة وثمانين عاماً بعد معاناة مع المرض.