الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
فيصل خرتش
زوج عمتي أو ما يعرف بالحاج الحديدي وهو ليس رجلاً حديدياً، وإنما ينتمي إلى عشيرة الحديديين وعمتي هي الثالثة من النساء اللواتي كن على ذمته، هي سمينة بعض الشيء وأنجبت ثلاثة صبيان له، وقد اتفقت مع أمّي على أن يذهبا إلى الديار المقدسة سوية، واستطاعت الحاجة / أمي أن ترفع من مصروف البيت، ومن بيع بيض الدجاجات، بعض النقود، ويومها أعطتها ما جمعته، قائلة لها، صرة عرب، أخذتها عمتي ودستها في جيبها، وتابعت حديثها وكأن شيئاً لم يكن، وراحت أمّي، قبل أن تصير حاجة، تجهز نفسها للحج، استعداداً للرحيل .
والرحيل كان يتضمن خمس سيارات، أو لنقل شاحنات صغيرة توضع بينها قطع الدفوف، فتصبح قسمين: قسم في الأسفل للنساء، وقسم في الأعلى للرجال.
وأبي الذي ذهب معها، جلس بجانب السائق في إحدى السيارات الخمس بجانب الحاج عبد، وسمّى نفسه معاوناً له، وأمّي وعمتي ركبتا في السيارة ذاتها التي كانت في نهاية السيارات وأبي معاوناً فيها. لم تطق عمتي مكانها في السيارة، وغادرت إلى جانب زوجها الذي يجلس في السيارة التي في مقدمة القافلة.
عبرت القافلة من البادية السورية، إلى البادية الأردنية، إلى الصحراء السعودية، وقد كان أبي يقسم: إنه لم ير شرطياً واحداً في هذه الرحلة، لا ذهاباً ولا إياباً، حتى أن معظم المسافرين لم يكونوا يحملون جوازات سفر أو هويات، ولا من يحزنون.
أبي كان يصبغ شاربيه، وهو يقلد بهما شاربي هتلر، يجلس في أرض الديار، كلّ فترة، ويخرج زجاجة صغيرة، وشيء يشبه الفرشاة، وهذه الزجاجة بها مادة سوداء، يدخل الفرشاة إلى عمق الزجاجة، ويخرجها، ويضع منها على شاربيه، يفعل ذلك عدّة مرات إلى أن يزول اللون الأبيض منهما، ولم يكن يصبغ شعره، لأنه مغطى بمنديل ويظهر أنه أخذها معه إلى الحج فقد عاد منه وكأنه ابن عشرين سنة.
الحاج عبد القادر، لم يكن يصبغ شاربيه، وقد تركهما على سجيتهما، فامتلأتا بالشيب، يغزوهما من كلّ مكان، ونسميه الحاج عبد القادر لأنه حج عدّة مرات قبل هذا العام، وبذات الطريقة، فهو يستأجر شاحنة ويقسمها نصفين ويزينها، ثم يأتي بها يوم الذهاب، يشغل بها الزمامير، لأن بها أكثر من زمور، عالٍ وواطٍ، يدور بها حول مكان الانطلاق عدّة مرات، ثم يتوقف، ويبدأ الناس بالصعود، وهو يصرخ بهم، الرجال من الأعلى والنساء من الأسفل، أنت يا حاج أجلس مكانك، وأنت يا حاج بجانبه ، وأنتِ يا حاجة أجلسي بأرضك ، وهكذا حتى تمتلئ الشاحنة فيدورها إلى المكان الذي ستنطلق منه الشاحنات ، ويطلق الزمامير .
نحن، أي أنا وأخي الكبير، عندما علمنا أن الركب وصل إلى الحج، وذلك عن طريق رسالة وصلت إلى زوجة الحاج الحديدي الكبيرة، عمتي هي الثالثة، وكانت بداية الرسالة تقول: سلام سليم، يأتي ويروح على الأخ والروح … إلخ … نبلغكم أننا وصلنا إلى الديار المقدسة، وكان ختامها: ومن ليس له سلام، له منا ألف تحية وسلام.
قرأت الرسالة للحاجة، زوجة الحاج الكبيرة، لأنها لا تعرف القراءة، وأبلغت أخي الكبير فحواها، وعند المساء جلب الطراش كي يطرش الباب بالأزرق، وكذلك طرش عمودين باللون الأسود، على طرف الباب، وزينه بالكتابات التي تبشر بأن حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، ثم طرشنا بالكلس جوانب الباب، وجلبنا الزيرقون وكتبنا بالخط العريض: من زار قبري وجبت له شفاعتي، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة … إلخ. ورسمنا الكعبة على الباب، وقد أبلغ أخي الكبير أحد أصدقائه بأنه سيذهب إلى بساتين الجانكية، فعليه أن يحضر العربة لينقلوا أغصان الأشجار وباعتبار أنه نجار باطون ممتاز، فقد ذهب هو وصاحب العربة، وجلبا الدفوف والسطامات والخشب، وبدأ يدقّها ويضعها بالبراميل، ولم تنقض ثلاث ساعات إلا والبناء قد اكتمل، فنقل أغصان شجر السرو والصفصاف والجوز التي جلبت من بساتين الجانكية، وزين بها هذا الباب فأصبحت بهجة للناظرين، كان الأخ الكبير لا يسمح لأحد بالاقتراب من زينة الباب، وكان يجلس مساءً مع صحبه بالقرب منه، يضعون الكراسي الصغيرة ويشربون الشاي، ويحكون لبعضهم القصص المسلية، ويدخنون السجائر، وأحياناً يلعبون بالورق.
كانت الرسالة الثانية قد وصلت إلينا وفيها يعلمنا أبي أنهم قد أنهوا رمي إبليس بالجمرات، وأنهم سيعودون إلى الديار، وما هي إلا غمضة عين إلا وسيكونون عندنا، ثم صفحة للسلامات والذي ليس له سلام منا له منا ألف سلام وسلام، قال الأخ الكبير: ونحن لها جاهزون، هكذا نزل بسرواله الأصفر الطويل إلى ما تحت الركبة، فقد كانت أمّه تخاف الله كثيراً، لذلك خاطته إلى ما تحت الركبة، المهم سد مدخل الشارع بثلاث حجرات كبيرة، سد الطرف الآخر أيضاً بثلاث حجرات كبيرة، لقد منع عبور السيارات من شارعنا نهائياَ.
في الأيام التاليات، وحين علمنا بوصول موكب الحج عند الساعة الخامسة من مساء اليوم، نشطنا أنا وأخي، استأجرنا السيارات، والبنات والنساء تزيّن ولبسن الثياب الزاهية، وحضر الطبال وصاحب المزمار، وبدأ بضرب الطبل والزمار يزمر والفتيات من كافة الأعمار يزغردن ، وانطلقت المجموعة بسياراتها ونسائها وزغاريدها وشبابها إلى قرية أورم الصغرى لجلب الحجاج ، دارو في البلد أربع فتلات قبل أن يذهبوا إلى أورم، والتقى الطرفان، وهات يا تقبيل، الحجي والدي غيّر ملابسه في السيارة ، وأمّي لبست ثوباً جديداً يصلح لهذه المناسبة، فوق ثوبها ، وعندما اقترب الوفد من مكان سكننا نزل الأخ الكبير وصار ينظم الدور، فالسيارات أوّلاً، ثم التريلات ثم الشاحنات الصغيرة، ثم الحمير والبغال، وضع كلابيته في طرف سرواله، ونزل، كانت النساء تزغرد، والزمامير تنطلق، والحمير تنهق، والرجال يتهاوشون، والطبل يقرع، والزمر يصيح، والحجي والحجية تقدما إلى مدخل البيت، وصار ضرب رصاص، وأختي الكبيرة كانت قد جلبت كبشاً مزيناً بالورود، وعندما وصل أبي إليه اندفع الجزار ليبطحه ويكبّر عليه، ذبح الكبش، والحجيان مرّا فوقه إلى مدخل البيت، والزغاريد تخترق السماء، والطبل والزمر يتناوشان مع بعضهما، النساء جئن للسلام على أمي، وصعد أبي إلى المكان المخصص له، وجلس على كرسيه العالي، والرجال جاءت لتسلم عليه، والدي، والذي أصبح اسمه الحاج أسعد اعتباراً من اليوم لأنه أدى الفروض المترتبة عليه، فقد كانوا ينادونه بأسعد أو باسم جدي حجل فيدعونه أبا حجل، واليوم صاروا يدعونه بالحاجّ أسعد، وها هو يجلس على الكرسي العالي المزين بالسجاد، والناس أسفل قعدته يجلسون على الأرائك، وراح يقصّ عليهم رحلته منذ غادرَنا إلى أن عاد، وكيف أنه زار الأماكن المقدسة منى ومزدلفة والمدينة ومكة، وكيف رمى ابليس بالحجارة الصغيرة، قائلاً له : قم من مكانك، انقلع من هنا، ليس لك مكاناً بيننا، وحين خفت رجل الذين جاؤوا لأخذ الراحة، راح يحدث الباقين عن تلك الرحلة، يومها عرفت أن الحاج أسعد حكواتي ممتاز، يصلح لأن يوضع في مقهى أيام رمضان ليقرأ سيرة عنترة.