ثقافةصحيفة البعث

الفن لتجميل شوارع ليست في مدننا!

نجوى صليبه

حرصت -وتحرص- كثير من عواصم الدّول ومدنها على تجميل شوارعها بأعمال فنية، انطلاقاً من تقديرها للفنّ وإدراكها أهميته في بناء الفرد والأسرة والمجتمع، وتالياً الذّهاب إلى الإنسان لا انتظار زيارته، فكانت هذه الشّوارع بمنزلة متاحف الهواء الطّلق كما السّينما والمسرح، وكانت التّماثيل والمنحوتات بأحجامها المختلفة رسائل ورموزاً لا تصعب على المواطن المحلي ولا السّائح الزّائر.

تحظى بعض هذه المنحوتات بشهرة واسعة، محلياً وعالمياً، كـ”تمثال الحرية” في جزيرة “مانهاتن” الأمريكية الذي انتهت عمليات بنائه في شهر تشرين الأوّل من عام  1886، وقدّمته فرنسا هديةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمناسبة الاحتفال بالذّكرى الـ 100 لاستقلالها واسمه كفيل بالتّعرف إلى رمزيته، وهو على هيئة امرأة تضع تاجاً على رأسها، وترفع يدها التي تحمل فيها شعلة إلى الأعلى، وبعض هذه التّماثيل كان خارج سباق الشّهرة عالمياً كـ”تماثيل الخروج من التّابوت” في مدينة “فيلادلفيا” الأمريكية، وهي عبارة عن حائط من الحجر الرّمادي محفور بداخله أكثر من تابوت يخرج منه رجل سعيد بحريته، وآخر يحاول التّحرر مثله.

وتأخذ بعض هذه المنحوتات شهرتها من شهرة ناحتها، فبعضها كان بتوقيع فنّانين مشهورين كـ”تمثال داوود” وهو تحفة فنّية أخذ من عمر مايكل أنجيلو ثلاث سنوات، إذ بدأ العمل فيه عام 1501 وانتهى منه في عام 1504، وهو تمثال رخامي طوله 5.17 أمتار، ونُقل في عام 1873 إلى “معرض أكاديميا” في فلورنسا الإيطالية، أمّا قلّة منها فبقيت “مجهولة النّسب”.

مواضيع كثيرة ترمز إليها هذه التّماثيل، فمنها ما يدلّ على عادة اجتماعية جميلة تشتهر فيها المدينة أو البلد كـ”تمثال أطفال يقفزون في النّهر” وهو مجموعة تماثيل بأحجام صغيرة تعبّر عن شعب سنغافورة العاشق للقفز في النّهر، ولاسيّما الأطفال الصّغار، ومنها ما يرمز إلى حبّ الوطن كـ”تمثال الوطن الأم” في مدينة فولغوغراد الرّوسية، ويصل ارتفاعه إلى 85 متراً، وهو عبارة عن تمثال امرأة تحمل سيفاً وتنادي الجنود، ومنها ما يوثّق حدثاً ما كالتّحفة النّحتية التي وضعت بالقرب من المكتبة الدولية في أستراليا، والتي تحاكي غرق جزء كبير من مكتبة “ملبورن” القديمة.

لكن تبقى التّماثيل والمنحوتات التي تشير إلى مرحلة تاريخية صعبة عاشها وعاناها شعب ما هي الأكثر جذباً وربّما تأثيراً في النّفوس، ونذكر هنا “تمثال عبور الشّارع” للفنّان “جيرزي كالينا” في مدينة “فروتسواف” البولندية، وهو عبارة عن مجموعة تماثيل لرجال ونساء يخرجون من تحت الأرض وكلّ في يده أداة من أدوات عمله، وكأنّه يرمز إلى عودة المواطنين البولنديين إلى حياتهم العادية بعد رفع الأحكام العرفية في عام 983، وهو قانون دفع النّاس حينها إلى العمل تحت الأرض خوفاً من الاعتقال.

أفكار غريبة وجميلة وفريدة في الوقت ذاته، لا يمكننا ذكرها جميعاً، لكن نذكر على سبيل المثال تمثال “عامل البلاعة” أو الصّرف الصّحي في مدينة “براتيسلافا” السّلوفاكية، حيث تظهر رأس العامل خارج البلاعة وكأنّما يأخذ قسطاً من الرّاحة أو شعر بحاجته إلى الهواء النّقي، وهناك مجموعة أحذية قديمة تصطف على ضفاف نهر الدّانوب في “بودابست” العاصمة المجرية، توحي بأنّ الجميع يسبحون وقد توحي للبعض بأنّ أصحابها اختاروا إنهاء حيواتهم في هذا المكان، وقد يعتقد متقفّو الأثر أن آثارهم انتهت هنا وبقي مصيرهم مجهولاً بالنّسب إليه.

إبداع نكتفي بمشاهدته والإعجاب فيه ومن ثمّ التّحسّر على حالنا وأحوالنا، لكن، ماذا عن شوارعنا؟ ماذا عن اهتمامنا بالفنّ ورسائله ووصوله إلى كلّ فرد منّا؟ ماذا عن متاحف الهواء الطّلق؟ وماذا عن تنشئة أبنائنا على المحافظة على الفنّ في شوارعنا على الرّغم من قلّته؟ أسئلة مشروعة وأجوبتها معروفة على الأقل بالنّسبة إلينا، فقد سمعناها سابقاً من ألسنة المعنيين الذين ما انفكّوا يكررون هذا الأمر وأننا بحاجة إلى تكاتف وتضافر الأسرة والمدرسة ووزارتي التّربية والثّقافة، لكن نجدد التّذكير “لعلّ وعسى”، أمّا السّؤال الذي نستطيع الإجابة عنه فهو: لو كانت تلك المنحوتات والمجسّمات موجودة في شوارعنا بهذه الكثافة، كيف كان أطفالنا ومراهقونا سيتعاملون معها؟ والجواب هو: كما يتعاملون مع التّمثال الموجود أمام قلعة دمشق، سيقتحمون السّور ويتعربشون عليه ويتسلّقونه حتّى يصلوا إلى أعلى نقطة فيه لالتقاط الصّور التّذكارية، وعندما يكتفون منها، سيوثّقون اللحظة بترك تواقيعهم وأسمائهم وأسماء أصدقائهم وصديقاتهم وزملائهم وزميلاتهم، طبعاً وسنشكرهم جزيل الشّكر إن لم يرموا المناديل القذرة أو أكياس “الشيبس” الفارغة ضمن سوره الذي اقتحموه سابقاً وتسبّبوا بخراب أجزاء منه!.

هل نحارب الفنّ ونحول دون تطوّر مجتمعاتنا؟ لن أجزم وأقول نعم، بل سأكتفي بالقول: معظم دول العالم اليوم إن لم نقل جميعها تتّجه إلى متاحف الهواء الطّلق، ونحن -حتّى اليوم- لا يمكننا أن نمنع أطفالنا من الركض والجري وراء قطّة في حديقة أو إضافة لمساتهم السّحرية على تمثال رخامي يرمز إلى ضرورة تحديد النّسل.