الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

نوافذ.. للبوح والحنين!

أشعرُ بفرح غامر مهيب، كلما وصل إلى يدي كتابٌ من بلادنا العزيزة فلسطين، وأحسّ بأنّ بوابة ضيقة جداً تزحزحت قليلاً تحت ثقل الشوق، ونورانية الحق، وجمال المعنى، فيمرّ عبرها، ورغماً عنها، ضوء عزيز مشتهى على شكل كتاب.

أفرح مثل طفل شغوب، والكتاب بين يدي، أقلّب صفحاته وأتأمّل سطوره، وأحك حبره، وأجلو ما فيه من بركة البلاد، كي أغرق في قولاته، وأماشي الأمكنة التي يتحدّث عنها، تاركاً بصري يتمرغ في تفاصيلها، مكاناً مكاناً، كيما يهبه الله نعمة الرؤيا الخرافية، وأحلّق مع الأرواح، مثل الطيور،  وهي تنشد أحلامها ورغائبها، وشوقها لكشف مسارات الغيوم!

منذ أيام، وصلت إلى يدي ثلاثة كتب من دار طباق، أرسلها الصديق طارق عسراوي، أولها قصص “نوافذ للبوح والحنين” للأديب محمود شقير، وثانيها سردية “اليوم الثامن” للأديب ابراهيم نصر الله، وثالثها سيرة ذاتية عن “الكتابة من السجن” للأديب كميل أبو حنيش، وقد ساهرتها واحداً واحداً، فقرأت صفحاتها كالمطرود، وواقفتها متأملاً كيما أدرك ما فيها من الرميات الفنية لتخليق أشكال جديدة من التقنيات؛ وجلتُ بين تضاعيفها لأسعد قلبي بالحديث عن الأمكنة توصيفاً وتصويراً ورسماً ومخاطبة، وما تستدعيه من حوار يذكّر بحوارات العشاق المهموسة قرب أسيجة العليق بعد الغروب بقليل،لأن المكان افتكّ

من بين أيدينا عنوةً وبالقوة الباطشة، المكان الذي عمره أهلنا وزيّنوه بما احتوى القلب من حبّ ، في كل سنة، بالزينات الجديدة، وأضافوا إليه ذوب أرواحهم، وذبالات أنوارهم حتى غدت البيوت حدائق للكلام، والفرح، والمسرات الوافية.

كتاب محمود شقير “نوافذ للبوح والحنين” يأتي ضفةً أخرى لابدّ منها، لكتابه القصصي الذي أصدره عام 1991 في دمشق، وعنوانه “صمت النوافذ”، فالنوافذ الآن ، وفي عام 2023، مشرّعة ومطلوقة، وجهيرة تبوح وتحنّ ، ولعل أهم ما في  هذه المروية هو الحديث الحميم عن المكان الطافح بالجمال، وأي مكان في مدينة القدس غير طافح بالجمال، حتى لا تكاد تعي من يروي عن المكان فالقدس، من أرصفة طرقاتها وعقباتها، ومن صغير عشبها، إلى شرفات بيوتها، الى أعالي أشجارها وغيومها هي أعمدة للجمال مرفوعة مثل الرايات، يشيل بها ويجول هواءٌ رهو طروب، وكلّ شوارع القدس وأزقتها ونوافذها وأبوابها وممراتها ليست سوى فضاء مديد عميم لروائح الحبق والليمون والقهوة النّداهة، وليس من أحد مثل محمود شقير من يعرف القدس في تفاصيلها التي تسلس له الانقياد كيما تبوح، وكيما يتجلّى حنين عشاقها في لحظات الضعف والقوة في آن ، فكلّ شيء في الحديث عن القدس يتدافع مثل نهر ملموم، و بهدوء رصين، وشوق طويل، كي يبدو الجمال الدفين مشاهد ورسوماً ليد  التاريخ البادي لوحات جمال للأقواس، والقناطر، وعتبات البيوت، وألواناً راهجة للأبواب الخشبية التي تزنرها صفائح النحاس، وتموج فيها سابحةً الخطوط والدوائر والأمنيات.

“نوافذ للبوح والحنين” للأديب محمود شقير، كتابة محتشدة بمفردات المكان الجلي النافر مثل ثمار الشجر، والتزمين لكلّ خبر أو حدث أو حادثة، وكتابة، حبرها الألم الموجع، للسيرة التي عاشها اغتراباً، وسجناً، وانتظاراً، وحنيناً، وأشواقاً مرسلات بعدما قذفت به الأيدي السود الخشنة إلى خارج المكان، خارج مدينة القدس، فراح يجالسها في اليقظة والمنام، لعل ضجيج القلب يهدأ أو يستكين.

وهي كتابة جديدة تتقفى شكلاً سردياً جديداً تتمازج فيه روح التراسل ما بين الأجناس الأدبية (الشعر والقصة والرواية) والفنون عامّة، من الموسيقى إلى المسرح إلى اللوحة التشكيلية، فيندفع السرد مثل فرس طرود، او طير باغته خوف غشوم!

انها القدس البادية في الفضاء اللامتناهي سيّدة للحضارة والجاه والمعنى، وانها سيرة الكتب التي تستنطق الألم والعذاب، بعدما عاشت ما عاشته من كواره شداد، وما عرفته من خرافات الأذى.

وهي كتابةُ الخائف الذي يمسك قلبه بأصابع راجفة، وهو يرى ما يرى من عسف وقهر واذلال يطال كلّ شيء، الحدائق، والشوارع، والبيوت، والاسواق، والمدارس، والمشافي، والناس، والأشجار وظلالها، ودور العبادة وطلّابها، والطيور الحذرة القلقة التي أزكمتها روائح البارود الشائعة.

وهي كتابة تختزن الحسّ الشعبي الذي لم تهزمه الظروف العاتية، ولا مشهديات الدم الرّاعبة، ولا الوحشية القاهرة، ولا الشرور العامة، ولا الحواجز المترادفة كراهيةً بفضاءاتها السود.

“نوافذ للبوح والحنين” كتاب أسعدني لأنني رأيت في صفحاته المكان الحميم المحلوم متجلياً بزهوة لا يعرفها مكان سواه، ولأنني رأيت في سيرة أهله الصلادة والفرح، لهذين الأمرين، أسمع دقّ قلبي يهتف: بلادي..بلادي!

حسن حميد

Hasanhamid55@yahoo.com