ثقافةصحيفة البعث

التراث الشعبي والهوية الوطنية

أجمع المشاركون في ندوة “التراث الشعبي والهوية الوطنية” التي أُقيمت مؤخراً في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بإدارة د. أمل دكاك ومشاركة د. منيرة فاعور، د. بلال عرابي، د. أحمد الأصفر على أن الحديث عن التراث الشعبي والهوية والوطنية اليوم ليس تغريداً خارج السرب، وما أحوجنا اليوم للحفاظ على هويتنا وتراثنا في زمن العولمة التي تحاول أن تقضي على تراثنا وثقافتنا لنكون ضمن هذا العالم التائه.

وبيَّنت د. أمل دكاك في تصريحها لـ”البعث” أن الباحثين والدارسين في التراث يجمعون على أن منطقة بلاد الشام هي المستودع التراثي المهمّ للبشرية، فعلى أرضها قامت حضارات اتّسمت بالتنوع في مناحي حياتها، وأن التراث الشعبي هو انعكاس للحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية للشعوب، والكثير من الحضارات السابقة بقيت في ذاكرة الشعوب من خلال ما تركته من تراث يمثل عصارة الفن وجذوة الحياة وعبق التاريخ، مؤكدةً أن التراث المادي واللامادي كان مطمعاً للغزاة منذ القدم لتدمير الثقافة والهوية، وأن سورية عملت على صون تراثها وحفظه في أصعب ظروف الحرب، مشيرةً إلى أن جامعة دمشق انطلاقاً من إيمانها بأهمية التراث الشعبي وأهميته في الحفاظ على الهوية السورية أحدثت ماجستير التأهيل والتخصّص في التراث الشعبي في قسم علم الاجتماع، وقام بتخريج ثلاث دفعات حتى الآن، والهدف منه حماية التراث وصونه.

دمشق روح وجنّات وريحان

وارتأت د. منيرة فاعور نائب عميد كلية الآداب في بداية الندوة أن تتحدث عن الغوطة، وإن بدا كلامها عنها مستغرباً في الندوة لاعتقاد البعض أنه حديث بعيد عن التراث، إلا أنه بدا واضحاً أنها تؤمن أن الغوطة تُعدّ جزءاً من تراث دمشق، وقد تحدث عنها كثيرون وتغنّى بها شعراء لأنها فتنتهم بعظيم جمالها وسحرتهم برائع صفاتها، كما أقام فيها معظم الرحالة، فجاء وصفهم لها وصف المحبّ وحديث العاشق الولهان لأنها كانت مدينة السحر والحضارة والتاريخ، متناولةً في كلامها تاريخها وأخبارها وموقعها ومكانتها وما كُتب وقيل عنها في تراثنا العربي، وهي التي تضمّ آثار مستوطنات بشرية ترجع إلى العصور القديمة، كما تشمل العديد من الأديرة والمزارات الدينية والمقامات وقبور الصحابة والكثير من المواقع والتلال، حيث يعود أقدمها إلى عصور ما قبل التاريخ كتل أسود الشهير، مشيرةً إلى أنه ومع تقدم الزمن تبدلت معالمها بسبب موجات الجفاف المتكررة التي تجتاح البلاد منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن، وزحف المدينة العمراني والصناعي التدريجي عليها والذي لوّث مياهها وقضى على مساحات كبيرة من أراضيها، لتأتي الحرب وتحوّلها إلى مسرح لها، وهي التي كانت في ذاكرتنا أجمل جنّات الأرض وأكثرها حسناً، وقد قال عنها الشاعر المصري أحمد شوقي: “آمنت الله واستثنيت جنته.. دمشق روح وجنات وريحان”.

الأصالة والمعاصرة

وتحدث د. أحمد الأصفر أستاذ في كلية الآداب وفي ماجستير التأهيل والتخصّص في التراث الشعبي عن موضوع الأصالة والمعاصرة، وفيما إن كانت هويتنا تكمن في أصالتنا وتراثنا أم في الحداثة والتفاعل الجديد مع العالم، مبيناً أن المفكرين انقسموا منذ أكثر من مئة عام بين مؤيد للتراث والتعصب له والتمسّك به وآخرين طالبوا بالانفتاح على العالم، ورأى أن التطرف في العودة إلى الماضي يقودنا إلى التقوقع والبحث في أشياء لم تعد مجدية في الوقت الحالي، وسيجعلنا غير قادرين على التفاعل مع الحضارة الحديثة، في حين أن دعوات نسيان الماضي والأخذ بالعادات والتقاليد والأفكار الجديدة جعلتنا نرى أنماطاً غير مألوفة في تراثنا، متسائلاً: أين هي الهوية الحقيقية للمجتمع العربي؟ هل تكمن هوية العروبة في الماضي أم في الحداثة؟ ورأى أن الإجابة على ذلك وإن كانت ليست معقدة لكنها ليست بهذه البساطة، فالإنسان قد يتغيّر ولكن هناك سمات جوهرية في شخصيته تؤكد هويته حتى لو أصابته بعض التغيرات الشكلية حيث المجتمعات تربطها قواسم مشتركة، ولكن هناك تغيرات إذا تمسّكنا بها يمكن أن نخرج عن الهوية لأن الهوية برأيه لا تأتي من اللباس أو العلم أو الثقافة أو البناء الحضاري إنما من العلاقة الحتمية التي تنظم أوجه الروابط والحقوق والواجبات بين الأفراد.

لا هوية دون تراث

وبيّن د. بلال عرابي الأستاذ في قسم علم الاجتماع في كلية الآداب والأستاذ في ماجستير التأهيل والتخصّص في التراث الشعبي أن الحديث عن التراث هو حديث عن الهوية الوطنية، فهما يكمّلان بعضهما عند الفرد والجماعة، فالتراث هو تاريخ الجماعة وأنماط حياتها عبر التاريخ، وهو النظم الاجتماعية ومنتجات هذا المجتمع عبر التاريخ من أدب وفكر وفلسفة وصناعات وحرف، وهو ضرورة لقيام هوية، فلا هوية دون تراث ترتكز عليه، ولا تراث بلا هوية، منوهاً بأن أجوبة المفكرين عن سؤال النهضة والعلاقة مع التراث متعدّدة، فمنهم من رأى أن النهضة لا تكون إلا بالعودة للماضي الذهبي، ومنهم من نادي بالقطيعة التامة مع الماضي وتراثه سبيلاً للنهوض، كما قدم بعضهم حلولاً توافقية للأخذ بمنجزات الحضارة الغربية وتقنياتها دون توجهات الغرب الفكرية والاعتماد على التراث لبناء مستقبلنا الخاص. وفي نهاية كلامه قدم مقترحات لربط العرب بهويتهم كالتعامل العلمي مع قضايا التراث وفهم نسبية المعارف والمعطيات، وضرورة تعزيز الهوية لتحقيق التنمية المستدامة للعناصر الثقافية المادية وغير المادية، مع تأكيده على ضرورة إدخال مفهوم التراث وصونه والحفاظ على هوية الأمة في التعليم ما قبل الجامعي ضمن مناهج تقليدية وغير تقليدية مثل المسرح، وإنشاء المعهد العالي للتراث ضمن وزارة التعليم العالي، وإدخال الجوانب التراثية في مناهج هندسة العمارة وكلية الفنون الجميلة، وإنشاء دكتوراه تخصصية في هذا المجال، إلى جانب الترويج الوطني والدولي لعناصر التراث السوري بالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة، والحفاظ على لغتنا العربية والتي هي أهم عنصر من عناصر الحفاظ على الهوية.

يُذكر أن الندوة تخللها عرض فيلم من إعداد د. أمل دكاك تحدث عن التراث في حياتنا المعاصرة ودوره في الحفاظ على هويتنا الوطنية.

أمينة عباس